خرجنا من مدينة قفصةالتونسية في الثامنة صباحا اتجهنا إلي مدينة توزر, دليلنا الروائي التونسي إبراهيم درغوثي والناقد الأدبي عمر حفيظ من أبناء المنطقة, سألت إبراهيم عن أصل تسمية توزر قال ان الأصل روماني وما أكثر الأصول الرومانية لتسميات المدن في تونس. تبعد توزر تسعين كيلو مترا عن قفصة, أما بعدها عن الحدود الجزائرية التونسية فلا يزيد علي خمسين كيلو مترا فقط وفي الخريطة السياحية لتونس يرسمون طائرة بجوار اسم توزر وهذا يعني أن في المدينة مطارا. نخيل كثيف حول المدينة, تعد توزر أكبر واحة في الصحاري التونسية ولكن الخريطة تخلو من وجه أبو القاسم الشابي الذي أتصور أن كونه من أبناء توزر أكثر أهمية من المطار وأكثر خطورة من النخيل, ربما تصور أهل تونس ان وجه الشابي علي الخريطة لن يكون له دور في السياحة ولن يحسنها, لذلك قدموا الحافزين السياحيين من وجهة نظرهم: المطار والنخيل. الطريق من قفصة إلي تونس يسير بجوار خط سكة حديد, علي اليمين جبل وعلي اليسار جبل, والطريق يتوسط الجبلين وقطار السكة الجديد ينقل الفوسفات من المناجم إلي الميناء, وعن عمال استخراج الفوسفات كتب إبراهيم ثلاثيته الروائية قلب السراب. إبراهيم الدرغوثي من قرية أم العرائس الواقعة في منتصف المسافة بين قفصةوتوزر وهو يعمل مديرا لمدرسة في قفصة وان كان جغرافيا يعد من أبناء توزر واسمه مدون في قائمة أدباء تونس الذين مازالوا علي قيد الحياة وذلك في متحف الشابي. ومن العلماء الكبار الذين ينتمون لتونس أبو الفضل النحوي من علماء القرن الثاني عشر الميلادي وهو صاحب بيت الشعر الذي صار مثلا من كثرة ترديده: أشتدي يا أزمة تنقرجي/ قد أذن صبحك بالبلج. وعلي ذكر عمال المناجم سألت هل مر سبارتاكوس من هنا عندما انتقل بثورته إلي شمال إفريقيا, حيث كان عبيد الامبراطورية قال لي إبراهيم وأكد عمر أنهما لم يتوقفا أمام هذه المعلومة من قبل. ومنطقة توزر تسمي بلاد الجريد جريد النخل ومنها خرج من أدباء تونس البشير أخريف ومحمد صالح الجابري ومصطفي أخريف ومحيي الدين أخريف ومن قبلهم ومن بعدهم الشابي ولد في واحة توزر ولم يعش فيها طويلا, لم يعمر أكثر من ربع قرن, كان عابرا أكثر من القول انه عاش, وهذا العبور العابر لم يمنعه من أن يمتد تأثيره مكانيا إلي كل مكان بصلة حرف الضاد وزمانيا أمتد تأثيره لزماننا وتجاوز أيامه وأصبح مؤسس الرومانسية العربية وفيما بعد الأب الشعري للثورات العربية. كان والد الشابي قاضيا تنقل بين معظم بلاد تونس ونصل إلي توزر ونهبط إليها ماتراه العين هو النخيل بشواشي النخيل ووسطها مآذن لمساجد بيضاء اللون. عند مشارف توزر نظرت أسفلي وليس إلي الأمام شواشي النخيل وهو أعلي الأشجار ليست خضراء اللون كما يتوقع الانسان أن يري عادة ولكنه الأسود بالتحديد الرمادي الغامق وهو يبدو شديد الوضوح وسط لون الصحاري الأصفر المتماوج من حول أو فوق الواحد من كل الجبهات. يعيش في توزر عشرون ألف نسمة مابين سكان جاءوا من العراق وآخرين أتوا من صعيد مصر, تعرف ذلك من عادات وتقاليد السكان والملابس والأطعمة التي يتناولونها. تشتهر توزر, علاوة علي أنها واحة الشابي, بنوع من التمر اسمه دجلة نور لا يزرع سوي في دجلة بالعراق أحضره أهل دجلة معهم عندما جاءوا لفتح تونس بالتحديد الفتح العربي والإسلامي لتونس. ويبدو ان الجيش الذي فتح تونس كان مكونا من العراقيين والصعايدة.. قطران عربيان قامت الحضارة فيهما علي الزراعة. في توزر وجدت الآثار الباقيات هكذا نقل صعايدة مصر إلي هنا فكرة مقاومة الفناء بالخلود أو وهم الخلود بيوت قديمة موغلة في القدم مكونة من ثلاثة طوابق, الطابق الأول الجريد, أي النخيل وفي الطابق الثاني الأشجار المثمرة وفي الطابق الثالث الخضر والبقول. النخيل والأشجار المثمرة والخضر والبقول فيما يمكن أن تنتجه جميع ما يحتاجه الانسان حتي يواصل الحياة ألا يشكل ذلك قمة الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد علي الآخر؟ أليست حضارة المصريين القدماء هي التي قالت للدنيا كلها ان الانسان الحقيقي لابد ان يزرع طعامه ويصنع سلاحه وألا فقل علي فكرة الاستقلال الوطني بلغة زماننا السلام ثم ألا يذكرك هذا بحدائق بابل المعلقة في العراق؟. عندما وصلنا إلي مدخل تونس قابلنا بيت من الشعر لا أحد يعرف من قائله: توزر إن شئت روضة جنة تجري بها من تحتها أنهار وآخر ما تودعه فيها بيت من الشعر ايضا خير البلاد لمن أتاها توزر يا حبذا ذلك الحباب الأصفر وهكذا تستقبلك المدينة الواحة مدينة الشابي, وواقعه وتودعك علي الشعر. المزيد من مقالات يوسف القعيد