ينسب للأب المؤسس للصحافة الصفراء، ويليام راندولف هيرست، الفضل في إشعال الحرب الأمريكية الأسبانية في 1898، وقد مثلت تاريخيا الميلاد الفعلي للامبراطورية الأمريكية والعام الأول فيما أُطلق عليه بعدها بعقود «القرن الأمريكي». وتعود التسمية لناشر صحفي أمريكي أخر، هو هنري لوس، وكانت حجته الرئيسية في دعوة الولاياتالمتحدة لدخول الحرب العالمية الثانية أن الانخراط في تلك الحرب هو السبيل لجعل القرن العشرين قرنا أمريكيا. تاريخ الأمم يجثم على العقول، ويغري بالإعادة، فيجيء مسعى المحافظين الجدد للتأسيس ل«قرن أمريكي جديد» شديد الشبه ببدايات القرن الأمريكي الأول: ذريعة إغراق سفينة «المين» الأمريكية عند الشواطئ الكوبية تقابلها ذريعة الهجوم على مركز التجارة العالمي، الاتهام الملفق لأسبانيا باغراق السفينة يقابله الإتهام الملفق لصدام حسين بالمسئولية عن الهجوم، فضلا عن أكاذيب أسلحة الدمار الشامل، «تحرير» كوبا من الأسبان يقابله «تحرير» العراق من صدام. وفي الحالتين الصحافة تروج للأكاذيب وتقرع طبول الحرب. عقب 30 يونيو 2013 طلب مني مركز دراسات أمريكي كتابة مقال عن التغطية الصحفية للأحداث الجسام الجارية على أرض مصر في وقتها. اقترحت مقالا من جزءين، يتناول أحدهما تغطية الصحافة العالمية، وبالذات الغربية، والآخر الصحافة المصرية. وافقت مسئولة التحرير بالمركز ورجتني أن أبدأ بالصحافة المصرية. كان مدخلي للمقال عن الصحافة المصرية بعد 30 يونيو، هو مقارنتها بالصحافة الأمريكية بعد 11 سبتمبر، حالة الحمى هناك وحالة الحمى هنا، شيطنة الآخر هناك وشيطنة الآخر هنا، تصديق وترويج الأكاذيب والأساطير هناك، وتصديقها وترويجها هنا، قرع طبول الحرب هناك، وقرعها هنا، حتى جرافيك العلم الصغير المرفرف على طرف شاشة التليفزيون والمذيل بشعارات المواجهة مع الإرهاب فعندنا كما كان عندهم. لمجرد استكمال القصة: أرسلت الجزء الثاني من المقال عن الصحافة الغربية بعدها بأيام، فإذا بالحمحمة واللجلجة والاعتذارت غير المقنعة. لم ينشر الجزءين الثانى من المقال، فقمت بنشر الجزئين عند زملائي في موقع أهرام أون لاين، مستنكفا في الوقت نفسه عن تلقي أي مقابل، ومستعوضا الله في ال 500 دولار حق المقال المنقوص. يروى عن هيرست أنه كان يفتخر بقدرة صحافته على إشعال الحروب بإشارة منه. أشك مع ذلك في أن صحافة هيرست الصفراء أشعلت الحرب الأمريكية الأسبانية وأسست للقرن الأمريكي، وذلك بقدر ما أجد استحالة في تصور أن دعوة هنري لوس أدخلت الولاياتالمتحدة الحرب العالمية الثانية. فرغم عشرات الكتب القيمة وآلاف الدراسات والمقالات، يبقى دور الصحافة في صناعة الأحداث وصياغة الوعي العام موضوعا للجدل والبحث والدراسة. ولكن دعنا نعيد التأمل في صحافة ما بعد 30 يونيو، مطبوعة ومذاعة. عالمان متوازيان لا رابط بينهما: عالم الصحافة المصرية من جهة وعالم الجزيرة والصحافة الغربية من جهة أخرى. وفي العالمين حمى ولوثة وأكاذيب وغياب يكاد يكون تاما لأنباء ودوافع ورؤى الطرف الأخر. هل ولأي مدى ساهم الإقصاء التام للإخوان عن الصحافة المصرية وشيطنتهم من قبلها في اشعارهم بأن ظهورهم للحائط، ومن ثم في ترجيح كفة الاستراتيجية الانتحارية المدمرة (للذات وللوطن) التي لجأوا إليها ولا يزالون؟ وهل ولأي مدى ساهمت الجزيرة والصحافة الغربية بإنكارها للرفض الشعبي العارم لحكم الإخوان، وبتصويرها للمواجهة معهم كمواجهة بين شرعية انتخابية وإنقلابيين، ساهمت في إذكاء أوهام الإخوان عن أنفسهم وعن احتمالات التدخل الخارجي الغربي لاستعادة «الشرعية»، ومن ثم لعبت دورا في دفع الأمور إلى ما صارت إليه؟ لا أملك إجابة يقينية على السؤال السابق، وذلك بقدر ما لا نملك حتى وقتنا هذا إجابة يقينية عن السؤال المتعلق بحدود دور صحافة هيرست الصفراء في إشعال أو إذكاء الحرب الأمريكية الأسبانية منذ أكثر من قرن من الزمان. ولكن يقينا نحن إزاء صحافة رديئة ومبتذلة، أدارت الظهر للرسالة الأسمى للصحافة وهي الكشف عن الحقيقة بأقصى ما في وسعها من الموضوعية والصدق والتوازن. يقينا أيضا، إن الصحافة المصرية، وعمرها يزيد على القرن ونصف من الزمان، تعيش هذه الأيام أسوأ لحظاتها على الإطلاق وأكثرها رداءة وأقلها مهنية، وذلك رغم ومضات هنا وهناك يطغى عليها الإظلام العام أو يكاد. مذيعون من كل حدب وصوب يتحولون بقدرة قادر إلى خطباء، ومن خطباء إلى محرضين محمومين، ومن محرضين إلى شتامة ورداحين، يذكرون المرء بمجاذيب هايد بارك كورنر في لندن صبيحة أيام الأحد، يعتلي كل منهم «صندوق الصابون» الخاص به، ليرغي ويزبد ويهلوس. هناك يسلون السائحين، وهنا يذهبون بالعقول. تحريض على القتل، مطبوع ومذاع، سباب مقذع ينال كل من يريده «صاحب المحل» (أو من وراءه) هدف، أو مجرد تطوع «حماسيا» من هذا الإعلامي أو تلك، يشمل شعوبا عربية بأكملها، يطال الشعب الفلسطيني البطل، ويصل في ابتذاله ولا إنسانيته إلى حد الشماتة في مذابح الأطفال في غزة على أيدي الهمجية الإسرائيلية، رجال أمن يعتلون المنصات واللافتات كنجوم إعلامية، «خبراء استراتيجيون» هم أشبه بالسحرة والمشعوذين، نظريات وتفلسف واقتباسات وإشارات تاريخية تؤلف حسب الحاجة ولا حاجة لمصادر أو توثيق أو معلومات، تسريبات أمنية تنشر وتذاع كحقائق بل وانفرادات، شائعات وتلفيقات وأكاذيب تصل إلى حد إذاعة التسجيلات غير القانونية للمحادثات الشخصية. أظن أن ويليام راندولف هيرست لابد فخور في قبره بأحفاده المصريين. ومع ذلك، لست مقتنعا بفاعلية طويلة المدى ل «غسيل المخ»، مهما كان الصابون المستخدم رديئا وكاويا، وظني أن الناس تميل إلى تصديق الأكاذيب والخرافات حين تلبي تلك حاجة ما في نفسها، وتلقى بها على قارعة الطريق حين تزول الحاجة. وإلا لما حفل تاريخ البشرية بالتمرد والثورة. لمزيد من مقالات هانى شكرالله