العملية العسكرية البرية الأخيرة التى نفذتها اسرائيل ضد قطاع غزة، جاءت فى تطور جديد لعقيدتها العسكرية، التى كانت تعتمد على إدارة المعارك العسكرية خارج حدودها، الا انها فى هذة المرة وضعت جميع الاحتمالات لإدارة المعارك على أراضيها. وتأتى هذه العملية العسكرية، فى إطار الدفاع عن الجبهة الداخلية التى تشكل أحد أهم أسس النظرية الأمنية الإسرائيلية، خاصة بعد أن أصبحت مستهدفة فى الحروب الأخيرة، وثبت أنها جزء لا يتجزأ من الجبهة العسكرية، وأن بإمكان الخصم ضربها بسهولة مقارنة بالماضى، لذلك وجب إجراء تغيير فى التقديرات الإسرائيلية، لتأخذ بعين الاعتبار أن الاستعدادات للمعركة يجب أن تشملها. واذا نظرنا فى الوقت الحالى على الوضع فى إسرائيل نجد تراجع مستوى وحجم الحصانة التى تمتعت بها الجبهة الداخلية خلالهما، خاصة أن «الأعداء» المحيطين بإسرائيل، يواصلون التسلح والاستعداد ليوم المواجهة القادمة، وما يعنيه ذلك من تأثير مباشر على حالة المناعة التى يجب أن تحظى بها الجبهة الداخلية التى ستشكل هدفا مفضلاً لهم إذا ما اندلعت الرصاصة الأولى. ووضعت تلك العملية سيناريوهات لم تتناولها من قبل واكثرها خطورة من حيث استهدافها المباشر للجبهة الداخلية، وتحول الإسرائيليين إلى «أهداف» متاحة للأسلحة التى ستستخدم ضدهم فى الأيام المقبلة، بعد أن باتت إسرائيل مسكونة خلال السنوات الأخيرة بتحصين الجبهة الداخلية، وخصصت فرقًا عديدة من الخبراء لدراسة ما يتعلق بها، خاصة فرضية «حرب الصواريخ» التى فرضت نوعًا جديدًا من التفكير العسكرى الإسرائيلي. ولعل ما تم يؤكد القناعات الآخذة فى التزايد فى المحافل الأمنية والعسكرية من حتمية انتقال ساحة الحرب إلى الجبهة الداخلية، وما يشكله هذا الاستهداف من حرب استنزاف مؤذية لإسرائيل على كل الأصعدة، فى ضوء نجاح القوى المعادية لها فى تطبيق المفهوم القتالى القائم على فرضية أن هذه الجبهة هى «الحلقة المكشوفة والأضعف» فى إسرائيل، ومن هنا فإن زعزعتها، أو كسرها من شأنه أن يرجّح كفتها، بالرغم من تفوق تل أبيب عسكريًّا. بل إن الجنرال احتياط «مائير ألران» أحد أقطاب المدافعين عن الجبهة الداخلية، كان الأكثر تحذيرًا مما وصفه «كابوس» المواجهة القادمة، حين عقد مقارنة ميدانية بينت الاختلاف الكبير الذى طرأ على تهديد الجبهة الداخلية خلال العقود الماضية، مما يؤكد فرضية انكشافها، فقد شهدت الأعوام بين 1967 2009 إطلاق ما يزيد على 12 ألف قذيفة صاروخية عليها، 1000 منها أطلقها فلسطينيون من الحدود الأردنية خلال حقبتى الستينيات والسبعينيات، و6 آلاف أطلقت من لبنان بين الأعوام 1996 2006، و5 آلاف أطلقت من المنظمات الفلسطينية فى غزة بين عامى 2000 2009، و40 صاروخًا أطلقت من العراق عام 1991. كما نقل الخبير العسكرى "يوآف ليمور" عن ضباط كبار أنه فى حالة اندلاع حرب بعد يوم أو يومين، فإن التقدير يذهب باتجاه أن الوضع فى الدولة سيكون «مضطربًا»، لاسيما لو شهدت هذه الحرب سيناريوهًا كارثيًّا يتمثل بإطلاق آلاف الصواريخ موجهة تقريبًا إلى كل نقطة فى إسرائيل، وتستهدف على وجه الخصوص تل أبيب وبئر السبع وأسدود من الجنوب، وحيفا وكريات شمونا من الشمال. الهدف الإسرائيلى من هذه العملية يكمن فى «تقصير مدة الحرب»، حتى لا تتأثر الجبهة الداخلية، ولذلك واضح أنه يجب القيام ب «حرب قصيرة»، وينقل ضباط كبار فى هيئة الأركان أن منطقة الشرق الأوسط «حبلى» بكثير من التطورات، مما يعنى أنه إذا اندلعت حرب غدا، فإن قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية ليست محصنة بما فيه الكفاية، وليست مستعدة بما فيه الكفاية، وفى النهاية فإن الفجوة الأساسية ليست فى التحصين، بل فى الاستعداد والقيادة، وبهذه الحكومة ورئيسها، آملاً أن تتعلم الحكومة كيف تواجه الحرب القادمة. فمع «انكشاف» الجبهة الداخلية خلال الازمة الحالية، و حربى لبنانوغزة، لم يبق أى تجمع سكانى فى إسرائيل إلا أجرى مناورات واستعدادات لمثل تلك الحالات الحرجة. أكدت العمليات العسكرية بما لا يدع مجالاً للشك أنه اذا دخلت اسرائيل فى حرب مع دولة تمتلك قدرة عسكرية ان استهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلية سيكون غير مسبوق فى حجمه، بحيث ستمطر آلاف الصواريخ من عدة جبهات: شمالية وجنوبية وشرقية، دون أن يتمكن الجيش الإسرائيلى من وقف إطلاقها. مع العلم ان الصواريخ باتت «السلاح المفضل» اليوم لتهديد الجبهة الداخلية، مما يتطلب التعامل والاستعداد بالشكل الملائم، فى ضوء أن نتائج الحروب الأخيرة شجعت العديد من الدول على المضى قدمًا، والاستمرار فى التسلح بالصواريخ، بينما لا توجد قرارات واضحة لدى المؤسسة العسكرية لمواجهة هذه الإستراتيجية بإستراتيجية مضادة، وهو ما يفسر لدى الإسرائيليين على أنه تقصير فى «الدفاع عن الجبهة الداخلية». وفى ضوء هذا التخوف المتزايد، أعلنت هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية من قبل وصولها إلى مرحلة من إتمام العمل لعدد من وسائل الحماية اللازمة، ومنها: 1 منظومة «حيتس 2»، المكلفة بالتصدى لصواريخ بعيدة المدى، لاسيما الآتية من إيران وسوريا. 2 منظومة "الصولجان السحري" المناط بها صد الهجمات الصاروخية المتوسطة المدي، ومصدرها لبنان، ومن المقرر أن يتم نشرها فعليًّا العام الحالى 3 منظومة «القبة الحديدية» لمواجهة الصواريخ القصيرة المدي، لاسيما صواريخ القسام التى تطلقها الفصائل الفلسطينية من قطاع غزة. وترتبط هذه التجهيزات بعبارة بات يكررها العديد من المسئولين الإسرائيليين، سياسيين و عسكريين، وهى أن السيناريو الأكثر توقعًا هو استهداف الجبهة الداخلية بمئات القذائف الصاروخية فى آن واحد، فالمقاومة اللبنانية تعرف جيدًا كيف تستهدف بئر السبع فى الجنوب، ونظيرتها الفلسطينية لديها القدرة العملياتية على الوصول بصواريخها إلى تل أبيب، والسوريون لديهم إمكانية استهداف معظم الأراضى الإسرائيلية، والإيرانيون يمتلكون صواريخ بعيدة المدى تطال جميع أنحائها، وبالتالى فأى إسرائيلى خائف يريد مغادرة مدينته المستهدفة، سيذهب حتمًا إلى مدينة أخرى فى مرمى الصواريخ! ورغم هذا فإن الحرب القادمة ستشهد هجرة آلاف الإسرائيليين من مدينة إلى أخرى، بحثًا عن الأمان المفقود.