رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    البريد يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة| تفاصيل    حماس: المساعدات حتى الآن لا تمثل نقطة في محيط احتياجات أهالي غزة    رفع 44 سيارة ودراجة نارية متهالكة خلال حملات مكثفة بالمحافظات    تحرير 503 مخالفات مرورية بسبب عدم ارتداء الخوذة    "بئر غرس" بالمدينة المنورة.. ماء أحبه الرسول الكريم وأوصى أن يُغسَّل منه    ما حكم بيع واستعمال سجاد الصلاة المكتوب عليه لفظ الجلالة؟.. الإفتاء توضح    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد مخططات 11 مدينة و160 قرية    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي    شاب ينهي حياته بأقراص سامة بسبب خلافات أسرية    الأرصاد تحذر من حالة الطقس: موجة حارة تضرب البلاد.. وذروتها في هذا الموعد (فيديو)    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    انطلاق مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائى اليوم ومصر تشارك ببروفايل    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    وزيرة التخطيط: الابتكار وريادة الأعمال ركيزتان أساسيتان لتجاوز «فخ الدخل المتوسط» (تفاصيل)    محافظ أسيوط يشهد تسليم 840 آلة جراحية معاد تأهيلها    قراران جمهوريان مهمان وتكليفات رئاسية حاسمة للحكومة ورسائل خير للمصريين    «يد الأهلي» يواجه الزمالك اليوم في نهائي كأس الكؤوس الإفريقية.. اعرف موعد المباراة    الهلال يفاوض أوسيمين    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 23 مايو في سوق العبور للجملة    محافظ سوهاج يفتتح ميدان سيتي بعد تطويره ويتفقد مشروعات التجميل بالمدينة    توريد 180 ألف طن قمح لصوامع وشون قنا    الأمين العام للأمم المُتحدة يعلن تعيين ياسمين فؤاد أمينة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    «الشيوخ» يناقش تعديلات قانونه ل«تقسيم الدوائر» غدا    الداخلية تكشف 6 شركات سياحية غير مرخصة تنصب على المواطنين    وزير الري: تحديات المياه في مصر وأفريقيا تتطلب مزيدًا من التعاون وبناء القدرات    بروتوكول تعاون بين "الإسكان" و"الثقافة" لتحويل المدن الجديدة إلى متاحف مفتوحة    بسمة وهبة ل مها الصغير: أفتكري أيامك الحلوة مع السقا عشان ولادك    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الخارجية: الاتحاد الأفريقى يعتمد ترشيح خالد العنانى لمنصب مدير عام يونسكو    المشروع x ل كريم عبد العزيز يتجاوز ال8 ملايين جنيه فى يومى عرض    وزير الخارجية والهجرة يتوجه إلى باريس لبحث القضية الفلسطينية    مقاطع مفبركة.. جارديان تكشف تضليل ترامب لإحراج رئيس جنوب أفريقيا    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    عمر مرموش يهدد رقم فودين فى قائمة هدافى مانشستر سيتى    رئيس الأركان الإسرائيلي يستدعي رئيس «الشاباك» الجديد    وزير الصحة يشارك في مائدة مستديرة حول البيانات والتمويل المستدام لتسريع التغطية الصحية الشاملة    الرعاية الصحية: التعاون مع منظمة الهجرة الدولية في تقديم الخدمات للاجئين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 23-5-2025 في محافظة قنا    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 23 مايو 2025    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    مجدي البدوي: علاوة دورية وربط بالأجر التأميني| خاص    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    يرغب في الرحيل.. الزمالك يبحث تدعيم دفاعه بسبب نجم الفريق (خاص)    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    موعد نهائي كأس أفريقيا لليد بين الأهلي والزمالك    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    «تعليم القاهرة» يختتم مراجعات البث المباشر لطلاب الشهادة الإعدادية    نجم الزمالك السابق: ما يحدث لا يليق بالكرة المصرية    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    4 أبراج «بيسيبوا بصمة».. مُلهمون لا يمكن نسيانهم وإذا ظهروا في حياتك تصبح أفضل    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    «بربع كيلو فقط».. حضري «سينابون اللحمة» بطريقة الفنادق (المكونات والخطوات)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سونامى قلة الأدب
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 07 - 2014

لا والله.. وحاشابالله وأبدًا ومُحال وكذب وافتراء وتخريب وتشويش وقرف وابتذال، وزفت وطين، فليس هذا مجتمعنا ولا تراثنا ولا ديننا ولا تقاليدنا ولا عُرفنا ولا دِربنا ولا سِلوْ بلدنا،
ولا نتاج ثورتين كان هدفهما السامى الإطاحة بالفساد والمفسدين وإخوان الشياطين.. ولقد حق علينا الخِزى والعار للخنوع والاستسلام لما نراه على شاشتنا متلازماً، مفضوحاً وحصرياً، مع أيام خير شهر أنزل فيه القرآن هدى للناس، فمنذ رؤية الهلال واستهلال الشهر الكريم ونحن لا سمح الله ولا أذِن ولا غِفر لم نخرج من إسار ظلمات ومتاهات وعناكب وحيّات الكباريهات وبيوت الدعارة والبارات والكاسات والتلميحات والتصريحات وأدخنة المحرمات وفتيات الليل والقوادين والشواذ والزنازين والسجينات والسجّانات والضبطيات بملاءات الفراش وأجواء تخشيبة «حلوة يا بلحة يا مقمعة شرفت إخواتك الأربعة».. حتى مسلسل «صاحب السعادة» لعادل إمام لم يخل للأسف هو الآخر في خضم السونامى الإباحى الرمضانى من لقطة نُسجت حولها الأحداث لبيت مشبوه تسوقه إليه النوايا الطيبة وإصلاح ذات البين، مع عدم إغفال اللقطة الدرامية المعهودة للصعود إلي بوكس الآداب من الباب الخلفى!
وتسقط الشمس فى جُب الغروب الحار من بعد النهار النار ويؤذن المؤذن، وتبتل العروق وتخطف الجماعة التراويح وتتمطى فوق المساطب والكراسى والدِكك تقلب الريموت يطلع لها زوج انقلب قردًا، وأم تحرض بناتها على الرذيلة، وأب مشيه بطّال، ومخاوية مترددة ما بين التوبة والتعاطى، وصفعات ولكمات وملابس داخلية بدون ملابس خارجية وخراطيش وشماريخ وسِنج على جميع الجبهات تشوه الخِلقة وتكوم على الأرض مع سيل من سباب استحدثته الأحداث وتخريجات العنف والإرهاب، وحِجة غياب البنية لوش الصبحية عملها كممرضة مما يسىء لأطهر مهنة، وبارمان عنده شرف واقع في غرام مدَّعية الشرف، وقربعة خمر للرُكب، وترنح سكارى فى الليل لمّا خلي إلا من قطط الليل، وشمّة كوكايين تعدل مزاج المعلمة قبل توجهها للقمة العيش، ومطواة تشرّح كل معترض، وصراخ وزغاريد ودربكة سعد الصغير ومنصات وهراوات وغرز حشيش وتجارة في جثث المشرحة، وخديوى تاريخه أمجاد سلسلوه داخل مخادع المحظيات استنساخاً لحريم السلطان.. وآخر الرزايا والزراية والقرف واحدة من نجمات المسلسلات لها باع فى تقنين وإتقان الردح وكلهن وللعجب العجاب كأنهن قد رضعن مع لبن الأمهات من نفس نبع التشويحات والتخريجات السوقية تلح وتستعطف وتلاغى وتناغى وتتمسح وتهدد وتتوعد وتهادن وتتحرش وتكشر عن أنيابها لجارها المغلوب علي أمره من أجل أن يمنحها «الصوفة»!!! التي يعيش على دخلها سبباً لرزقه وأكل عيشه!! ويطول المشهد اللامعقول وأظل لا أعقل أو أصدق مادية تلك الصوفة التى يتدلل ويتعالى بسببها ذلك الرجل وتتذلل من أجلها تلك المرأة التى خرجت ورجعت وطلعت ونزلت وأرعدت وأزبدت وعادت أخيرًا بعد نصف كيلو من الإعلانات بكام فردة حمام محشى تدعوه لتناولها بالهنا والشفا والهضم والتمام ودخول الحمام ليأتيها معه بالصوفة التى تستخدمها في تجارة النصب والاحتيال لإنجاب زوجات غافلات يعانين من عقم أزواج منتهى الصلاحية.. و..اتفرج يا سلام على مسلسلات رمضان ويا تطق من الغيظ، يا تموت من الحسرة على شعب نسبة الأمية فيه بلغت 60٪ يفتح صفحة عقله البيضاء الفارغة لتلقى ثقافته الوحيدة من موسوعة الساقطات ومعلمات المدبح وبلطجية الحارات، ولا يغيظنى الآن سوى الجملة التى ينطقها قائلها بصلف مع جميع النهايات «رمضان يجمّعنا» وأدعو الله فى سرى رغم جهبذة نقاد الواقعية المتدنية ألا تلبى السماء دعوته ويجمعنا على مثل تلك المسلسلات حتى لا ترسخ فينا نزعة قلة الأدب.
الإمام مصطفى المراغى.. الثائر على الجمود
أعجبت بالشيخ أيمَّا إعجاب. كان مرادى ألتقى مرّة فى حياتى بمن مثله, ولقيت مرادى فى المراغى. قلبى يا ناس كان مبتغاه يفرح بواحد يعلن الرفض الأبىّ الشامخ، ويقول أبدًا ولا ممكن ومن ضروب المحال أن أغيّر مبادئى، أو أدير ظهرى للحق، أو أخون شريعة وأحكام عقيدتى، أو أن أتجمد وأغلق مفاتيح الفهم والعقل والمنطق والخروج عن القرآن الكريم الذى ارتفع بالعقل وسجل أن إهماله فى الدنيا سيكون سببا فى عذاب الآخرة: «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير». شيخ اكتوى بالنار، أى والله بمية النار الهارئة التى سكبوها انتقامًا على وجهه ورقبته فيتلظى بأهوال الجلد المسلوخ، ويشيط لحمه الحى المدخن بولعة اللهيب، ورغم هذا لم يراوغ المراغى من جهره بالحق ومواجهة الباطل بقوله «لا»... فضيلة الإمام الشيخ محمد مصطفي المراغى الذى أدار ظهره للملك فؤاد، وقال لفاروق الملك في أوج ملكوته وسطوة سلطته وجموح غضبته «محال» رافضا أمرا نازلا من فوق، من جالس على العرش ووارث له أبًا عن جد. ممن بيده العزل والحبس والتشريد، ونزع الأبعديات والألقاب والنياشين لمن لا يحنى الهامة ولمن لا يقول آمين!
شيخنا الجليل أبحرت فى سيرته العطرة فزادنى الشوق للهبوط على فيروز شطآنه، والسكن فى نعيم جناته لأهتف من جمع الفؤاد: الله عليك يا مراغى شيخًا لأزهرنا الشريف، لكافة المسلمين فى الريف والحضر، وفى بطون النجوع والقرى والسهول والوهاد.... ولأننى ورثت إعجاب أبى بالعالِم العلاّمة الجليل وجدتنى هذه الأيام بالذات أعود لأدور حول الصرح الشامخ أتعرف بروية على ما جاء فى سيرة زينة الشيوخ والرجال. الذى لم يعرف الدجل ولا الكذب ولا مجاملة الأقوياء لأنهم أقوياء. عفّ اللسان الحليم الذى لا يغضب إلا إذا شعر بأن أحدًا يدنو من ساحة كرامته أو كرامة أزهره. المتفتح الذى عندما ذُكر فى مجلسه هلاك من لم يسلموا من الأجانب طرح عشرات من أسماء عظماء منهم خدموا الإنسانية قائلا: «إنهم ناجون لأن دعوة الإسلام لم تصلهم».. الشيخ المستنير الذى أسرَّ لصاحبه أنه قد قام إزاء إحدى السيدات ذات الثراء عندما خاف عليها الفتنة بعد طلاقها من زوجها بتحريضها على تعلم اللغة الفرنسية لتشغل وقتها بما يسليها فى محنتها، وكان من أثر نصيحته أن تعلمت الفرنسية وانشغلت بأدبها حتى باتت تكتب بها الشعر قصائد شجعها علي نشرها..
المراغى قاضى قضاة السودان الذى استقبل ملك انجلترا ببلدة «سواكن» مع الحاكم الإنجليزى فصافحه كما يتصافح المتماثلون والأنداد، فعاب عليه الإنجليز الحاضرون بقولهم: «كان يجب على المراغى الانحناء للملك كبقية المستقبلين»، فقال: «ليس فى ديننا سجود لغير الله».
ابن بلدة مراغة مركز جرجا، المولود عام 1881، الصعيدى المستنير الذى تولى مشيخة الأزهر فى سبتمبر عام 1928 ليقدم استقالته بشجاعة بعد عام واحد معترضا على الملك فؤاد فى تحرير الأزهر من جموده وتحويله إلى جامعة عصرية حديثة، فقد أراد للأزهر ضعفًا وألا يغدو سوى مؤسسة دينية وظيفتها تأييد الملك المفدى والدعاء له من فوق المنابر. ليس إلا. ذاك لأن فؤاد كان يدرك بذكائه تأثير الشعور الدينى وقوته لدى المصريين، فأراد أن يستغل تلك القوة الدينية الكبرى لتسير فى ركابه دعما لسلطانه. وقد كان مشروع المراغى لتطوير الأزهر ينسف مخطط فؤاد، فبدلاً من خدمة الأزهر التى تدور فى فلك المليك، يتخرج الأزهرى من بعد الجامعة الشامخة مرتبطا باحتياجات المجتمع كله لا بحاجة الحاكم فى الدعاء له بطول العمر فقط. المراغى التلميذ النابغة للمصلح الشيخ محمد عبده، من اقتنع بمنهجه الكريم فى تزاوج الدين بالحياة. فى ربط شرف الأزهر بشرف المجتمع. بكسر الجمود والركود فى العقل العربى.. وتحت قيادته بدأ الأزهر يتواصل مع المحافل والمؤتمرات العلمية العالمية، مبلغاً دعوة الإسلام، بمنطق جديد، وملقيًا الأضواء على مميزات وامتيازات الإسلام، وما لديه من حلول للمشكلات الإنسانية.
المراغى الذى أعدّ مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء مرسوم تعيينه شيخًا للأزهر فاعترض الملك فؤاد لأنه كان يريد تعيين الشيخ الأحمدى الظواهرى، لكن النحاس أصرّ، وتم له ما أراد، وبدأ المراغى فى إعداد مشروع قانون بتنظيم الجامع الأزهر وجعله ثلاث كليات «أصول الدين، والشريعة، واللغة العربية» بعد أن كان التدريس يجرى فى صحن الجامع ولكل أستاذ عمود يجلس بجانبه ليلتف من حوله الطلبة اختيارًا، ثم أعد مشروع قانون لتنظيم بعثات إسلامية تذهب إلى أفريقيا وآسيا لشرح مبادئ الدين الإسلامى سواء للمسلمين أو الوثنيين، وكان كلما فرغ من إعداد مادة من مواد القانون أرسلها للملك فؤاد للموافقة عليها، لأنه كان يتوجس خيفة من أن الملك سوف لا يوافق فى نهاية الأمر على القانون برمته، وقد صح توقعه إذ رفض الملك التوقيع، فقدم الشيخ استقالته. وكان رئيس الوزراء «عدلى يكن باشا» من حاول إثناء الشيخ عنها بلا نتيجة، وكان رئيس الديوان الملكى «توفيق نسيم باشا» الذى طلب من الشيخ الحضور إلى مكتبه فى السراى للتحدث معه، فرد المراغى قائلا: «إذا أردت مقابلتى فاحضر إلى منزلى»، فقال توفيق نسيم: «لكنى أمثِّل الملك»! وجاءه رد الكرامة: «وأنا خادم الله، وخادم الله أقوى من ممثل الملك».
الشيخ المراغى الذى ثار الأزهر مطالبا بعودته للإصلاح، وخرج الطلبة في يناير 1935 وعلى رأسهم الشيخ أحمد حسن الباقورى هاتفا بعبارته الشهيرة: «إما تحت راية المراغى، وإما إلى القرى تاركين الأزهر للبوم والغربان» مظاهرات كانت فى زمانها تطالب بتطوير الأزهر، وليست كمظاهرات الإخوان الآن التى تطالب بتحطيمه وجاء الرد الملكى على نداء الأزهر بفصل اثنين وسبعين من شيوخه وعلمائه، ومنهم الشيخ شلتوت، والشيخ عبداللطيف دراز، والشيخ إبراهيم اللقانى، والشيخ السبكى، والشيخ محمد المدنى، وأخيرًا اضطر الشيخ الظواهرى شيخ الأزهر للاستقالة فى 27 ابريل 1935 ليعود المراغى شيخا للأزهر ومن حوله كوكبة الإصلاح، وبقى في منصبه عشر سنوات حتى وفاته في 22 أغسطس 1945. عاد ينادى بالاجتهاد الذى كان بابه قد أغلق منذ زمن بعيد بسبب عكوف بعض الشيوخ على الاسترخاء للتقليد. كان المراغى يرى فى غلق هذا الباب توقفا لحياة الفكر الإسلامى ليغدو عاجزا عن العطاء. كان يعيب على رجال الأزهر أنهم يقرأون الكتب التى طبعت منذ قرون عديدة ولا يهضمونها. يقرأون ويرددون. يقرأون ويرددون. والتلاميذ الذين يصغون إليهم لا يتعلمون إلا أن يقرأوا ويرددوا جيلا بعد جيل. قال بوضوح عالم الأمور: «نحن لو أردنا أن نبدّل حالنا بأحسن منه علينا أن نشجع الفكر الحى بدلا من تقليد ما سبق من أفكار، وهذا هو الطريق إلى الإسلام»، و«الجمود جناية على الفطرة البشرية، وسلب لميزة العقل التى امتاز بها الإنسان، وإهدار لحجة الله على عباده وتمسك بما لا وزن له عند الله».
الشيخ عندما رشحه الحاكم الإنجليزى ليكون قاضى قضاة السودان عام 1919 رفض ترشيح الحاكم الإنجليزى له وطلب أن يكون تعيينه بمرسوم خديوى قائلا: «إن قضاءه لا يكون شرعيا وصحيحا إلا بموافقة حاكم مسلم». وتم له ما أراد ليكون أول قاضى قضاة يعين بمرسوم خديوى.. أتى بقضائه العادل ليلغى الطلاق بالثلاث ويجعله طلقة واحدة. حتى لا ينهار البيت ويتشرد الأولاد.. المراغى الذى أجاز للحفيد أن يرث جده إذا ما كان والده قد مات في حياة الجد، وكان الأحفاد يُحرمون من ميراث جدهم بسبب وفاة والدهم لأن أعمامهم الأحياء يحجبون عنهم الميراث.. المراغى الذى أمر من خلال رئاسته للمحكمة الشرعية العليا عام 1923 أن تؤلف لجنة برئاسته من أجل مراجعة قوانين الأحوال الشخصية مقترحا أن تتخلص من تبعيتها المطلقة للمذهب الحنفى، وأن تختار من أقوال المذاهب الأخرى ما يتناسب مع المصلحة العامة..
القاضى في قضية وقف أراد أصحابها أن يتنحى عن نظرها مقابل عشرة آلاف جنيه كانت في ذلك الوقت بمثابة ثروة طائلة تقدر بملايين زماننا. رفض رجل الدين الشريف الرشوة ضاربا بذلك عرض الحائط، فأتى الثأر منه بإلقاء مية النار عليه يوم الحكم، فأصيب بحروق مروعة بالغة دارت تنهش عنقه وصدره. وهنا حدث ما لم ولن يتكرر في تاريخ القضاء. لقد تحمل المحترق آلام النار الكاوية الناهشة ودخل قاعة المحكمة لينطق بالحكم العادل قبل نقله فوق المحفّة مغشيا عليه إلى المستشفى!.
وترصد عين التاريخ أن الملك فاروق كان فى أفضل صورة شعبية له منذ عام 1936 حتى عام 1945 فى ظل حياة الإمام، ولم تبدأ مظاهر الفساد والإفساد فى الدوائر الملكية إلا بعد وفاة الشيخ في عام 1945، فقد كان منهاج فاروق احترام شيخ الأزهر ورأيه وما تحويه خطبه من تعاليم الإسلام، حتى أن الشيخ قد وقف على منبر الأزهر ليلقى خطبة الجمعة قبل وفاته بعامين وأمامه الملك والأمراء والوزراء وعلية القوم، وكان موضوع الخطبة شرح الآية: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون». وبعد شرح الآية قال المراغى حاسما: «هذا وعد الله الحق لعباده الذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا الأعمال الصالحة لأنفسهم، ولبنى وطنهم وللناس كافة. وعدهم سبحانه بأن يمكنهم فى الأرض آمنين مطمئنين سادة أعزّاء، ماداموا سائرين علي ما رسمه لهم من صراطه المستقيم». ثم رفع رأسه قائلا: «أما إذا انصرف أمراؤنا إلى الترف ووزراؤنا وكبراؤنا إلى مجرد التمتع بالحياة وزينتها ولا يذكرون الله إلا قليلا. إذا حصل ذلك، فلا ننتظر من الله إلا مقتا». هنا مال نجيب الغرابلى باشا يهمس فى أذن عبدالجليل عيسى أحد تلاميذ المراغى الجالس بجواره يسأله بتعجب: «أين نحن الآن؟!» فأجابه: «فى الجامع الأزهر» فعاد الغرابلى هامسًا: «فى أى زمن؟!» فقال: «فى القرن الرابع عشر الهجرى أى القرن العشرين الميلادى»، فعاد الباشا يقول: «لا. لا. نحن الآن والله فى القرن الأول الهجرى». فأدرك عبدالجليل ما أراد قوله وصدّق عليه، فقد كان الخطاب هداية وشفافية وتنويرا، والملك مستمعاً منصتاً ملتزماً ونبيلاً.. بل قابعاً يذكر الله على حبات مسبحته فى وقار الإيمان.
الشيخ المراغى فى حضرة المليك فى مناسبة أخرى وبشجاعة نادرة يلقى خطبته داخل المسجد منددا بالاستعمار، محذرا مصر من دخول الحرب إلى جانب الإنجليز، معلنا قوله المأثور: «هذه الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل». وانزعج الإنجليز حتى أن السير «مايلز لامبسون» أيقظ رئيس وزراء مصر وقتها «حسين سرى» ليطلب من الإمام أن يطلعه بعد ذلك على جميع خطبه قبل أن يلقيها على الناس، فأصيب الشيخ بالأسى وقال إنه يستطيع أن يقيل السير لامبسون ذات نفسه بخطبة واحدة منه على منبر الأزهر أو مسجد الحسين. ولاذ رئيس الوزراء بالصمت المقتنع، وحذا السفير البريطانى حذوه!
تسامحه مع أبناء غير دينه ورثه الإمام عن والده. كتب عن ذلك مراسل جريدة التايمز الإنجليزية في مصر «قرياقص ميخائيل» فى مقال له نشرته الجريدة بالإنجليزية بمناسبة تعيين الشيخ المراغى شيخا للأزهر عام 1928 قال فيه: «إن والد الشيخ واسمه مصطفى عبدالمنعم المزارع ببلدة المراغة كان أقباطها حين يريدون الحج إلى بيت المقدس يتركون أموالهم ومصاغهم وديعة لديه». ويروى الابن أحمد مرتضى المراغى عن والده الإمام: «كان على صداقة وود بالغين مع المرحومين البطريركيين الأنبا كيرلس ثم بعده الأنبا يؤنس، وكانوا يتبادلون الزيارة إما فى منزل والدى بحلوان، وإما فى البطريركية، وأذكر أن والدى اصطحبنى معه في زيارة قام بها للأنبا يؤنس للتهنئة بعيد الفصح، وفى أثناء الحديث قال والدى للبطريرك يؤنس: «ادع لابنى لتحصل له البركة». فضحك الأنبا الذى لم يكن متزمتا حاله حال والدى وقال ضاحكا: «تكفيه بركتكم يا سيدنا الشيخ». كان والدى يعى تماما ما ورد في القرآن عن المسيح عليه السلام وأنصاره، وما قاله سبحانه وتعالى عن مريم البتول: «.يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين». وكان يردد ما ورد فى الحديث الشريف عن أقباط مصر ووجوب رعايتهم لأن للمسلمين فيهم رحمًا ونسبًا، مشيرا إلى زواج النبى بالسيدة مارية القبطية أم إبراهيم عليه السلام، وما ورد عن إباء الخليفة الجليل عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة بيت المقدس تخوفا من أن يحولها المسلمون إلى مسجد، وعما قام به عمر بن الخطاب من استدعاء الصحابى الجليل فاتح مصر عمرو بن العاص إلى مقر الخلافة بالمدينة لأنه سمع أن ابن عمرو ضرب غلاما قبطيا سابقه فسبقه الغلام، حتى أن ابن الخطاب ناول الغلام القبطى عصا قائلاً «اجعلها فى صلعة عمر»، ثم قال عبارته التاريخية: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
ومن ضروب المثال على ما كان عليه شيخنا من رهافة الحس والشعور البالغ بالعطف على المظلوم، واحتواء من يقع عليه جور التعدى موقفه الإنسانى من الأديبة «مى زيادة» في مأساتها عندما ساقها أقرباؤها ظلما وتعسفا لتسجن خلف أسوار العصفورية فى لبنان مدعين جنونها. كان الشيخ المراغى ممن استفسر عنها وأرسل يسأل عن أحوالها، وعندما عادت لمصر كانت أولى زياراتها له فى مقره بالأزهر، بينما رفضت الرد على طه حسين والعقاد اللذين صدّقا كذب المكيدة التى حيكت ضدها، وكان أولى بهما وهما من عرفاها عن قرب الوقوف بجوارها فى محنتها ونزع فتيل المكيدة التى ساقتها إلى محبسها الانفرادى خلف أسوار عالم الجنون. و. ذهب الشيخ ليستمع إلى محاضرتها فى الجامعة الأمريكية التى ألقتها يوم 20 يناير عام 1941 لتثبت للجميع حُسن منطقها وسلامة عقلها، وكانت بعنوان «عِش في خطر» التى قالت فيها: «الدنيا كلها خطر، وتاريخها حافل بالأخطار، وأنت تولد فى لحظة خطر لتمضى فى طريقك المقدر لك حاملا حقيبة خطر تلازمك في جميع أسفار حياتك، وهذا التلازم يجعلك توأما للخطر فلا تخشاه، بل واجهه، وامتطى ظهره، واجعل مقوده ملك يديك، فإذا ما أنت تسوسه فلن يستطيع أن يلوى عنقه ناحيتك إلى الخلف ليوقع بك». ودمعت عينا المراغى الذى ذهب ليستمع للمحاضرة مدعما بحضور فضيلة الإمام الأكبر موقف الأديبة المظلومة صاحبة أشهر صالون في الشرق.
ويمرض الشيخ العظيم ويدخل مستشفى المواساة، ويَخْطُر للملك فاروق أن يزوره للاطمئنان على صحته، وأن ينتهز ساعة ضعف أو صفا ليحصل منه على مبتغاه.. طلب فاروق من الشيخ المريض أن يصدر فتوى تحظر على الملكة فريدة الزواج بعد طلاقها منه. وما أن نطق فاروق بطلبه حتى استوى المريض المتهالك جالسا وسط الفراش غاضبا متعجبا من هول الطلب حتى ولو جاء على لسان ملك. مجيبا بكل الحزم المعروف به: «أما الطلاق يا مولاى فلا أرضاه، وأما التحريم فلا أملكه. إن المراغى لا يستطيع أن يحرِّم ما أحل الله». وذهب فاروق مشفقا على هزال شيخه الذى يحبه ويحترمه كاظماً غيظه لأنه لم يستطع استمالته لتحقيق مبتغاه، فلم يكن يتصور يوماً أن يكون هناك زوج من بعده فى حياة فريدته..! ويلاحظ الشيخ المريض أكثر من مرة أن جمعاً من الممرضات الأجنبيات يرتدين مع قدوم المساء ملابس السهرة المتبرجة فيسأل الدكتور النقيب مدير المستشفى عن تلك الظاهرة، فيقول له النقيب إن هؤلاء الحسناوات مطلوبات على الدوام فى حفلات القصر الملكى بأمر خاص من المليك، فيثور الشيخ غاضبا قائلا للنقيب «حين ترى الملك قل له إن المراغى لا يرضى أن يقابل وجه الله وهو إمام لك»، وكتب استقالته وأرسلها للملك فاروق الذى منع نشرها وحفظها فى أدراج الكتمان بدون تعليق، كما سبق له عدم التعليق على أحد أحاديث الشيخ الدينية التى كان يلقيها فى شهر رمضان والملك جالس أمامه تحت المنبر: «يا صاحب الجلالة أين عرش قيصر وكسرى؟! وأين مال قارون؟! لقد ذهب كل ذلك ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام».
المراغى.. الأزهرى صاحب هزّة النهضة الكبرى. المقيم جسرًا للمحبة مع الآخر. معلم الشعوب والملوك. مترجم معانى القرآن للإنجليزية ليطلع الغرب على ما فيه من توحيد وتنزيه ومكارم أخلاق وسماحة. المستنير المنادى بالتغيير. المنصت لأدب المرأة. المرشد لخُطاها. المنصف لأبنائها. الكابح لجماح لسان زوجها. المستقيل الأول فى بلد لا يعرف فيها أصحاب الكراسى معنى ولا كرامة الاستقالة. القائل من موقع قداسة الموقع: «قدموا لى ما يفيد الناس وأنا أقدم لكم سندًا له في الشريعة الإسلامية».
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.