إن أعاظم الرجال هم ملح الأرض وتاريخ كل أمة .. جملة عبقرية وصف بها فؤاد صروف رئيس تحرير جريدة « المقتطف « الخديو إسماعيل عام 1945 بمناسبة مرور 50 عاماً على وفاته .. وقال إن الخديو إسماعيل كان واحداً من هؤلاء الأعاظم برغم ما افتراه بعض كتاب التاريخ عليه فقد كان عصره حافلاً بالأحداث العظيمة، فقد اتخذ لقب خديو أو الوالى العظيم عام 1867 وإعترفت الأستانة لمصر باستقلالها مع بقاء الجزية عام 1873 . ووجه عنايته الى تنظيم الحكومة والإدارة والجمارك وأنشأ مصلحة البريد المصرية وأصلح المدارس الحربية وشجع نشر التعليم ومد السكك الحديدية وخطوط التلغراف وبنى المنائر ومرفأ السويس وحاجز الأمواج فى ميناء الإسكندرية وشق الترع وشيد الكبارى والغى السخرة وحارب تجارة الرقيق وبعث حملة الى السودان لإستكشاف مجاهل القارة الإفريقية وفى عهده احتُفل بافتتاح قناة السويس وأنُشئت المحاكم المختلطة وصدرت لائحة بتأسيس مجلس شورى النواب وانتخاب أعضائه ... ولو أن ملكاً ترك نصف هذه المآثر فى بلاد أخرى لأضيف لقب العظيم الى اسمه ولكن من نكد الدنيا حسب قول فؤاد صروف أن إسماعيل كان فى حاجته للمال للقيام بكل هذه الأعمال العظيمة يعامل طائفة من المرابين الدوليين لا يعرفون الا الجشع فوقعت مصر لقمة سائغة لهم لأن أميرها أراد أن يخرجها من الظلمة الى النور فرموه بالإفك والأكاذيب ومنها أنه مبذر ويحب مظاهر الأبهة ومُجرد من المبادئ .. فهل يرضى التاريخ بهذا الحكم على إسماعيل؟ والحديث عن إسماعيل يتجدد هذه الأيام بمناسبة عرض مسلسل «سراي عابدين» الذى يحكى قصة هذا الخديو وحريمه وقصوره وجواريه وحكاياته بطريقة درامية تحيد كثيراً عن الحقائق التاريخية الثابتة بل أنها تقلب بعضها بشكل غير مسبوق مثل حكاية موت الامير فؤاد الذى اصبح الملك فؤاد فيما بعد وهروب الأميرة نازلى واتهام الامير توفيق بقتل أخيه ، ولكنها تُقدم صورة مخملية لحياة البرنسيسات والأمراء ، وصورة أخرى قاتمة لحياة الخدم والأغوات والمؤامرات التى تحاك داخل حرملك قصر عابدين .. فما هى الحقيقة وراء حكايات الخديو وسراى عابدين ؟ حينما يكون الحديث متعلقاً بشخص اختلف حوله المؤرخون مثل إسماعيل باشا بن إبراهيم بن محمد على أو «الخديو إسماعيل» الذى احتار المؤرخون فى تحديد شخصيته يصبح الخوض فى التاريخ كالخوض فى البحر الهادر بأمواجه و تقلباته، فالبعض يؤكد أنه جر على مصر الخراب و كبلها بأغلال الديون و فتح الباب أمام الإحتلال البريطانى بدون حاجة ماسة اللا الفشخرة أمام أصدقائة الاوروبيين وحتى يبدو وكأنة أحد ملوك الف ليلة وليلة القادم من أعماق التاريخ حيث السحر والغموض والأساطير.. واختزلوا الرجل فى كونه أميرا شرقيا مبذرا يحب الأبهة، غارقا فى ملذاته وشهواته، يعيش ليالى ماجنة داخل حجرات سرية بقصوره الأسطورية محاط بآلاف المحظيات والجوارى الحسان . وهؤلاء اكتفوا من التاريخ بحكايات المقاهى التى تنتقل من فم الى فم من خلال دخان الشيشة أو «الكلام اللى على الريحة» والذى تأتى حكاياتة لتمس الجروح المفتوحة عن الفقر والديون . وهناك آخرون لهم رأى مختلف أمثال بيير كرابيتس القاضى بالمحاكم المختلطة الذى عاصر جزءا من حكم إسماعيل وكتب كتاباً بعنوان «إسماعيل المُفترى عليه» أكد فيه أن الأقوال التى قيلت فى إسماعيل تنطوى على جور وافتراء وتشويه للحقيقة وإن فى الأوراق الرسمية الموجودة فى المحفوظات الملكية بقصر عابدين ما يكفى لإنصافه، كما كتب بيردسلى قنصل الولاياتالمتحدة فى مصر رسالة الى وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 15 سبتمبر 1873 أى بعد عشر سنوات من حكم إسماعيل قال فيها إن إسماعيل قد أدى واجبه بمعرفة فائقة للرجال وبواطن الأمور ومهارة إدارية قلما تصادف عند الأمراء الشرقيين ، فمنذ ارتقائه للعرش وهو يتوافر على رقى مصر الداخلى بمواهب نادرة وهمة لا تعرف الكلل، إن الوالى النشيط لا يعرف الوهن اليه سبيلاً على أن جهودة المتواصلة بدأت تنال من بنيته القوية، فهو يغادر الفراش فى ساعة مبكرة وكثيراً ما يسهر أناء الليل مكباً على دراسة المسائل المتعلقة برفاهية بلاده، وهو يستدعى وزراءه فى أى ساعة من النهار أو الليل. كانت هذه شهادة واحد من الدبلوماسيين الذين عاصروه، فهل يُعقل أن يكون الرجل مزدوج الشخصية .. أو أن يكون الرجل الذى يعمل بمنتهى الهمة والنشاط هو نفسه ذات الرجل الذى يمضى ساعاته فى طلب اللذة والغرق فى النزوات؟ والحديث طويل عن ذلك الوالى الأسطورة الذى أنجب ثلاثة حكموا مصر ( هو توفيق وسلطان هو حسين كامل وملك هو فؤاد )، وكان يُلقب فى بداية حكمة بالباشا أو أفندينا أونائب الملك Vice Roi باعتبار أن الملك هو السلطان العثمانى، ولم يتخذ لقب الخديو الا عام 1867 أى بعد 4 سنوات من بداية حكمة وبالتحديد عندما كان عمره 37 عاماً . أما عن حياته الخاصة وحكايات السرايات فيقول أحمد شفيق باشا فى كتابه «مذكراتى فى نصف قرن» إن الروايات التى تتناقلها الألسن عن أن سرايات إسماعيل كانت مملؤة بالآلاف من الجوارى والراقصات والمغنيات والعازفات على الآت الموسيقية مبالغ فيها فلم يكن بالسرايا سوى جوقة وترية (فرقة) واحدة ومعها مغنيات خاصة بالزوجة الثالثة (جشم أفت هانم) - أقربهن الى قلبه - وبعد زواج ولى العهد توفيق انتقلت (شفق نور هانم) والدته للإقامة معه فى سراى القبة وذلك عقب صدور السلطان الفرمانى بجعل ولاية مصر وراثية فى أكبر أولاد إسماعيل وقد أشار السلطان على الخديو أن يعقد على والدة توفيق فوافق وصارت الزوجة الرابعة ... وأما البرنسيسات الثلاث فكانت كل واحدة منهن تقيم فى «بُلك» جناح خاص داخل القصر ولكل منهن «قلفاوات» وهن خادمات رفيعات المستوى تُوزع عليهن الوظائف المختلفة (خازندارة وشماشرجية) وبعضهن كن يلبسن ملابس الرجال المزركشة ويتقدمن الزائرات الى جناح الحريم وكانت تُختار ذات وسامة وتحمل فى يدها عصا غليظة من الفضة وكان يُطلق عليها إسم الشاويش ، وللقلفاوات خادمات خصوصيات صغيرات من الجوارى السود والشركسيات يدربنهن للقيام بأعمال القلفاوات إذا كبرن .. وكان سموه يتناول الطعام مع البرنسيسات – إذا سمح وقته - على الطراز الأوروبى وكان الطاهى المخصوص يرسل أطعمة الخديو فى أوان ملفوفة بالقماش ومختوم عليها بالشمع الأحمر ويتسلمها محمد بك الناغى السفرجى الخصوصى لإسماعيل ويسلمها لأربع سفرجيات من الجوارى تفك أختام الأطعمة وتقدمها الى المائدة .. وكانت الأطعمة تقدم فى أوان من فضة الا فى المناسبات الخاصة فكانت من الذهب، ومن الأطعمة المشهورة فى السراى صنف «الرز الخديوى المصنوع بخلاصة رءوس الضأن والديكة الرومية» . وعند استقبال الزائرات كانت الأميرات تلبسن الملابس الحريرية الفاخرة ذات الألوان الزاهية والأذيال الطويلة وكن يجلسن بجوار بعضهن، ثم تقدم القهوة فى فنجان ذى ظرف مصنوع من الأسلاك الذهبية الرفيعة على أشكال جميلة ومرصع بالماس وكان يسمى «شغل شفتشى أو سودانى» وكانت الزائرات لسراى عابدين تصيبهن الدهشة لمنظر الجوارى فى ملابسهن الفخمة ويتسائلن «أحقاً هؤلاء مملوكات ؟».. أما فى الحفلات الكبرى وأفراح الأنجال فكانت البرنسيسات يتزين بأبهى زينة من الملابس المزركشة بالجواهر بما لا يشاهد حتى عند الملكات الأوروبيات .. وكان الخديو إسماعيل فى بعض الأحيان ينتقل من عابدين الى إحدى السرايات الأخرى فى الجزيرة أو الإسماعيلية أو الجيزة وكانت الأميرات ترافقنه وكان للخديو فى كل سرايا «بُلك» مخصوص تقيم فيه القلفاوات الخصوصيات والمحظيات . وعن كيف كانت زوجات إسماعيل يعشن فى وفاق مع أنهن ضرائر فضلاً عن وجود محظيات كثيرات له يقول أحمد شفيق باشا أن الغيرة لم تكن لدرجة إحداث شقاق بينهن وإذا حدث شىء من ذلك يقوم «خليل أغا» باش أغا والدة إسماعيل بتلافيه والفضل فى ذلك يرجع لإسماعيل الذى عقد (تزوج) على من كان يعتقد فيها الرزانة والعقل الراجح والمحافظة على المقام العالى الذى يرفعها اليه فكن لآخر حياتهن محترمات موقرات من الجميع . أما عن الوالدة باشا أو أم الخديو إسماعيل (خوشيار هانم) فلم تكن فى الحقيقة كما قدمها مسلسل (سراى عابدين) كئيبة ومثيرة للمشاكل وعصبية ومكروهة بل كانت فى شبابها جميلة الصورة وكانت تحب السرور والإنشراح كما يقول أحمد شفيق باشا ولم تكن تقيم فى عابدين بل أقامت مع حاشيتها فى سراى الزعفران بالعباسية وقد تركتها بعد أن شيدت سرايا فخمة مطلة على النيل فى جاردن سيتى وكان يوجد بها طقم موسيقى كالموجود فى الآيات الجيش مؤلف من أربعين عازفة لهن مديرة برتبة الآميرالاى وعلى صدرها نيشانان وكانت تدير بعصاها الفضية «الجوقة» التى كانت ترتدى أفرادها البنطلون والجاكتة ذات الأزرار المذهبة من الجوخ الأحمر المزخرف بالقصب وتلبس على رأسها طربوشاً ... ومن هنا يتبين أن الأميرة خوشيار خانم أفندى كان لها غرام بالفن الجميل وكانت تنتقى الجوارى الحسان وكانت تأتى لهن بالمعلمين والمعلمات ولا مبالغة إذا قيل أن هذه السراى كانت تحوى من الجوارى الحسان وأتباعهن السودانيات ما يبلغ آلاف عداً... وكانت أميرات البيت الخديوى يرسلن القلفاوات لإنتقاء الجوارى وكانت كل برنسيس تحب أن تنتقى خير ما يكون من الجوارى لتنال الحظوة لدى إسماعيل ... أما عن الطعام فى سراى الوالدة باشا فكان أميل الى الطريقة الشرقية فكانت الوالدة تجلس مع البرنسيسات والزائرات على (شلت) حشايا مغطاه بقماش مزركش بالقصب توضع على الأرض فى هيئة دائرة وفى وسطها كرسى مغطى بنفس الغطاء المزركش وفوقه صينية من الفضة وأدواتها كذلك الا فى المناسبات الخاصة فتكون جميعها من الذهب ويقوم على خدمتهن جوار يرتدين اللباس الفاخر وفى يد بعضهن (منشة)، وكان يتم استقبال الزائرات حتى باب الحريم ثم يجلسن فى غرفة الاستقبال على مقاعد شرقية عالية فى حين تجلس الوصيفات على ( شلت ) وتقدم للزائرات القهوة مثلما يحدث فى عابدين ويقدم لهن ( شُبكات ) – أرجيلة التدخين لمن يُدخن ثم بعدها تقاد الزائرات الى غرفة استقبال الوالدة باشا التى ترتدى الملابس الشرقية الثمينة وكانت ترحب بهن باحترام وبشاشة ثم ترجعن بعدها الى الصالون ويشربن الشربات أو (السوبيا) وبعدها يرافقهن الأغوات الى الباب الخارجى . ومسلسل «سراى عابدين» جانبه الصواب فى كثير من التفاصيل منها أن الخديو احتفل بعيد ميلاده الثلاثين فى قصر عابدين وهو ما لم يحدث، فالقصر بدأ العمل فى بنائه فى 1869 وانتقل اليه إسماعيل فى 1874 أى حينما كان يبلغ من العمر 44 عاماً، ولم يكن القصر الذى تكلفت مبانيه 38 الف جنيه إنجليزى بالفخامة التى يتحدث عنها المسلسل بل كان كما يقول مكاون فى كتابه « مصر كما هى « هذا القصر صرح فسيح ولكنه مبنى وضيع الشكل من الوجه الهندسى وقد خصص جانب منه لدواوين الحكومة وفى هذا الجانب بهو للحفلات والمآدب وفيه أيضاً مجموعة من الغرف يشرف فيها سموه على أعمال الدولة.. أما البهو نفسه فلا يشف مرآه أو أثاثه أو زخرفة عن أى شىء من العظمة، ففيه سجادة عجمية كثيفة ومتكأ مكسو بالحرير وبضعة كراسى مكسوة بنسيج يلائم نسيج المتكأ و6 مصابيح بلورية معلقة على الجدران المزخرفة زخرفاً عربياً ومنضدة صغيرة مذهبة يجلس الأمير وراءها . وكان للخديوي إسماعيل أربع زوجات هم شفق نور هانم التى أنجب منها الخديوي توفيق ونور فلك هانم التى أنجب منها السلطان حسين كامل وفريال هانم التى أنجب منها الملك فؤاد الأول وجشم أفت التى لم ينجب منها ومن مستولداته ملك هانم التى أنجب منها الأمير حسن باشا وجانانيار هانم التى أنجب منها الأمير إبراهيم حلمي والأميرة زينب هانم وجهان شاه قادين التى أنجب منها الأمير محمود حمدي وشهرت هانم التى أنجب منها الأميرة توحيدة والأميرة فاطمة وغيرهن الكثيرات . وللخديو إسماعيل أعمال وإنجازات لا يمكن للتاريخ أن يغفلها إذ تحمل بصمته ورائحته مثل سراى الجزيرة التى بناها خصيصاً ل «أوجينى» أمبراطورة فرنسا لتقيم فيها اثناء احتفالات افتتاح قناة السويس، وقصر الأهرام الذى تحول فيما بعد الى فندق ميناهاوس أوبروى وكوبرى قصر النيل الذى تم إنشاءة عام 1872 ليكون الأول من نوعه فى إفريقيا بل فى الشرق كله وقد أطلق العامة على الخديو اسماعيل «أبو السباع» بسبب السباع الأربعة الذى وضعهم فى بداية ونهاية كوبرى قصر النيل وكأنة قصد أن يطمئن أهل المحروسة على الكوبرى ويشعرهم بالأمان والفخامة . والأوبرا الخديوية التى أنشأها استعداداً لإحتفالات قناة السويس بالإضافة لإعادة تخطيط مدينة القاهرة لتشبه باريس واستعانته فى ذلك بالبارون «أوسمان» الذى خطط باريس القرن ال 18ومساعدة المهندس «ديشان» ومن هنا جاءت تسمية القاهرة«بباريس الشرق» . ورغم كل هذه الإنجازات اللا أنه وبسبب الديون سعت الدول الأوروبية لدى السلطان العثمانى وعلى رأسها فرنسا وإنجلترا لعزله حتى كان لهم ما أرادوا وصدر فرمان بعزله في 8 يوليو 1879م وتنصيب ابنه الأكبر محمد توفيق باشا بعدما حكم مصر 17 عامًا فما كان من إسماعيل الا أن سافر على الفور إلى ناپولي بإيطاليا، ثم انتقل بعدها للإقامة في الآستانة حتى توفي في 2 مارس 1895 في قصره «إميرجان» وعاد جثمانه ليدفن فى القاهرة فى عهد حفيده الخديو عباس حلمى الثانى . وفى النهاية لا يمكن الا أن نقول أن لكل حاكم سقطاته و كبواته و إنك أمام شخصية مثل الخديو إسماعيل لا تملك الا خيارين لا ثالث لهما إما أن تضعه فى مصاف الملوك العظماء الذين قدموا الكثير لبلادهم أو أن تضعة على المقصلة و ترمى به فى مزبلة التاريخ بحجة أنه دمر البلاد وقادها الى التهلكة بسبب إنسياقه وراء نزواته وشهواته..