هواة الموسيقى الكلاسيكية يمكنهم أن يراقبوا العازفين فى دار الأوبرا المصرية خلال عزفهم المقطوعات الشهيرة لكبار المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين، يتقدم المايسترو الذى يقود الفرقة بعصاه الدقيقة، وأمام كل عازف نوتة يقرأ منها خلال عزفه، لا مجال للارتجال والانفراد والتغريد خارج السرب، إن أهم ما يميز الموسيقى الكلاسيكية هو الهارمونى الذى يعنى الانسجام والتناسق بين أفراد الفرقة، بحيث يعرف كل فرد دوره، ومتى عليه أن يتوقف، ومتى عليه أن يدخل، حتى لو تعلق الأمر بجزء من الثانية. الفرقة الموسيقية كل متكامل، ولكل فرد داخلها دوره المحدد، إنه نوع من العمل الجماعى الذى يحفظ خصوصية كل عازف وكل آلة، يتعلق الأمر إذن بنظام دقيق وتوزيع للأدوار بشكل عقلانى، وكما يعرف أهل الاختصاص، فإن الموسيقى الكلاسيكية قد تطورت مع صعود الفكر العقلانى فى أوروبا، وهى تعبير عن هذه العقلانية التى تعنى الانسجام بين الإنسان والطبيعة، ومن المعلوم أن الموسيقى الكلاسيكية قد أخذت بالنمو، والتطور مع القرن السابع عشر، وبلغت ذروتها فى القرن التاسع عشر وصولا إلى حقبتنا الراهنة، وأصبحت القطع الكلاسيكية لموسيقيين من أمثال بيتهوفن وهايدن وموزارت وباخ وشتراوس.. قطعا عالمية تعزف فى كل الأزمنة والأمكنة. ترافق صعود الموسيقى الكلاسيكية مع تطور الصناعة فى أوروبا، وأصبح المصنع أشبه بفرقة موسيقية، يدير كل آلة صانع، أشبه بالعازف، فالصناعة تقوم على توزيع أدوار العمال من أجل غاية واحدة هى المنتج المتشابه والمتناسق، الذى يخضع لنفس المعايير، كما ترافق مع تنظيم الجيوش، التى لم تعد تقوم على شجاعة الفرسان والمبادرات الخاصة والمبارزات البطولية، بل أصبحت الجيوش تخضع لعلم اشتهر فى القرن الثامن عشر فى أوروبا، وعرف باسم «التكتيك» أى إعداد الخطة، فالفوز فى الحرب والانتصار فى المعارك لم يعد مرهونا بالشجاعة الفردية والإقدام، بل يرتبط بالخطة المحكمة التى يقودها قائد يوجه الأوامر فيلتزم كل فرد بدوره فى المعركة وموقعه داخل الفرقة والمجموعة والجيش. ليست الموسيقى الكلاسيكية هى التى أوجدت الصناعة ولا الجيوش التى تكسب الحروب، ولكن نظام الموسيقى هو نفس نظام المصنع، والنظام نفسه الذى تخضع له الجيوش، وهو نفسه النظام الذى يحكم الإدارة الحديثة والمدرسة والجامعة وكل مرفق عام وكل مؤسسة وجمعية. إن الفكرة الرئيسية التى أريد أن أعبر عنها، هى أن العقلانية واحدة، والنظام الاجتماعى واحد، وحين تدب الفوضى فى مرفق من المرافق الاجتماعية، فهذا مؤشر على أن الفوضى ستنتشر فى كل المرافق، وحين ينتشر الفساد فى مؤسسة، فهذا يعنى أنها ستنتشر فى كل المؤسسات، وحين يهبط الفن فهذا مؤشر إلى هبوط فى الثقافة والاقتصاد والإدارة...إلخ، وبنفس المقياس لا يمكن أن نحقق التقدم فى مرفق إذا أهملنا المرافق الأخرى، ولا يمكن للصناعة أن تنهض دون أن تنتظم شئون الإدارة، ودون أن يتقدم نظامنا التعليمى الذى يجدر أن يقع تعليم الفنون للناشئة فى صلبه. إن تأسيس فرقة موسيقية لا يعنى أننا غادرنا من التخلف، ودخلنا فى طور التقدم والصناعة والبناء، ولكن حين تصبح الفنون جزءا من نظام التعليم الحديث، يمكننا أن نتحدث عن تطور يصيب كل مرافق الإنتاج فى المؤسسات الاجتماعية، والأصل فى كل ذلك يرجع إلى منظومة الأفكار التى توجه أعمالنا ومؤسساتنا. إن تطوير وإصلاح نظم التعليم فى بلادنا العربية أصبح حاجة ملحة، وتدريس الفنون ينبغى أن يدخل فى أساس نظم التربية، ومن ينظر إلى الفنون الراقية فى الصين واليابان، يدرك بأن ما أحرزته هذه الشعوب، لا يقتصر على الصناعة، ولكن تطور الصناعة هو نتاج نظم التعليم والنظام المدرسى الذى يجعل تدريس الفنون يعادل تدريس العلوم والآداب. لمزيد من مقالات خالد زيادة