الاشارات متعددة ومتواترة عن مرحلة جديدة من أزمة المثقفين، والباحث في أوضاع المثقفين في مصر وعلاقتهم بأنظمة الحكم التى تعاقبت عليها منذ قديم العصور سيصل بالضرورة الى الاستنتاج بأن تلك أزمة دائمة، ولكنها قد تأخذ صورا صارخة في بعض العهود وقد تأخذ صورا مستترة في عهود أخرى، هل يعود ذلك الى الموقف النقدى للمثقف، والذى يكاد يكون في بعض الثقافات عنصرا أساسيا في تعريف المثقف ؟ أم أن ذلك يعود الى توقعات السلطة من المثقفين، والذين يصعب عليهم، بحكم تعدد اتجاهاتهم وخلفياتهم أن يفوا جميعا بها ؟ كان أبلغ تعبير عن دوام هذه الأزمة في مصر هو تشبيه ساخر أطلقه المفكر المرموق المرحوم الدكتور أنور عبد الملك في حديث معي ذهب فيه الى أن رؤية السلطة الحاكمة في مصر لدور المثقف هو أنه ينبغي أن يقتدى بنموذج تمثال الكاتب المصرى في العهد الفرعوني. هذا الكاتب الجالس القرفصاء، والذى تنحصر مهمته في كتابة العرائض باسم المواطنين الأميين. أزمة المثقف فى مصر في رأى المرحوم أنور عبد الملك تبدأ عندما يخرج عن هذا الدور، فينهض واقفا طالبا بحقوقه ، أو مناشدا الحاكم أن يتوقف عن انتهاك حقوق مواطنين آخرين. لا تريد السلطات الحاكمة في مصر على مدى العصور من المثقف الا أن يظل جالسا القرفصاء مكتفيا بكتابة العرائض التى لا تتحدى الحاكم، ولكن تستعطفه أن يخفف من غلواء بعض من يمارسون السلطة باسمه. وقد ارتضي المثقفون أداءهذا الدور علي امتداد تاريخ مصر حتى بدأ عهد الدولة الحديثة فيها. ولاشك أن العصر الذهبي للمثقفين في مصر كان هو العصر شبه الليبرالي الذى مهدت له ثورة 1919. كان المثقفون طليعة الحركة الوطنية حتي من قبل هذه الثورة، ، وتقلبت حظوظهم مع تقلب حظوظ أحزاب هذه الحركة، فهم أحيانا في المعارضة، وهم حينا آخر يمارسون سلطة الحكم.. طبعا دفع بعض المثقفين ثمن نقدهم لسلطة الملك وأودعوا السجن، ولكن سجون ذلك الزمان، كانت سجونا متحضرة، لايلقي المواطنون فيها التعذيب، ويعامل مسجونوالرأى معاملة متميزة ، ولايطول سجنهم كثيرا في كل الحالات، وكانت سلطة القضاء تتفهم مايراه البعض شططا من بعض المثقفين، وهكذا لم ير وكيل النيابة الذى حقق مع طه حسين فيما وجه له من اتهامات بالخروج عن صحيح الدين فيما كتبه عن الشعر الجاهلي سوى اجتهاد لا يستحق عليه العقاب. تغير الأمر كثيرا بعد ثورة يوليو 1952 وذلك بالغاء مؤسسات التعددية السياسية والفكرية التى ارتادها المثقفون، ومنها الأحزاب السياسية وجماعة الاخوان المسلمين ولاحقت الحكومة التنظيمات الشيوعية ثم فرضت الرقابة على الصحف، وانتهي الأمر بمصادرة الصحف المستقلة مثل جريدة المصرى، وتأميم كل الصحف والمجلات في سنة 1960 بدعوى تنظيمها. ومع ذلك نجحت سلطة يوليو في أن تستوعب في مؤسساتها الصحفية والاعلامية وغيرها من مؤسسات الدولة أغلبية هؤلاء المثقفين، مستندة الي شعبيتها الجارفة، والى تقدير جمال عبد الناصر المتواضع للوزن السياسى للمثقفين. وتعلم المثقفون أيضا قواعد اللعبة في هذا النظام : النقد المباشر ممنوع، ، ولكن النقد المبطن مسموح به. لم ينجح أى من العهود التى أعقبت نظام يوليو في استيعاب المثقفين ،وان اشتركت جميعا في الاعتقاد بعدم قدرة المثقفين على تشكيل تهديد لسلطتها بسبب الهوة الساحقة في رأيها بين المثقفين وعامة الشعب الذين لايهتمون سوي بلقمة العيش. تشكك الرئيس السادات في المثقفين بكل اتجاهاتهم ، ولم يتردد في الأمر بالتعتيم الاعلامى على أبرز رموزهم فى 1972 أو فى طرد العشرات منهم من الصحافة والجامعات أو ايداعهم السجن فى سبتمبر 1981.واكتفى الرئيس الأسبق حسني مبارك بلقاءات احتفالية سنوية مع جمهرة مختارة من المثقفين والاعلاميين ، ولكنه أفسح مجالا واسعا للكتابات والأعمال الناقدة له في أجهزة الاعلام المختلفة وخصوصا المستقل والخاص منها وكذلك في المسرح والسينما اعتقادا منه أن هذا النقد يخفف الاحتقان السياسى ،. وانتوى الرئيس المعزول محمد مرسي شرا بالمثقفين بتغيير رؤساء الصحف وبتعيين وزير للثقافة في آخر عهده كانت مهمته هي تأديب المثقفين مما دعاهم الى احتلال مكتبه . ولذلك شارك كثيرون من المثقفين في ثورة 30 يونيو، ,وأيدو دور القوات المسلحة في تجنيب البلاد حربا أهلية باسقاط حكم الاخوان المسلمين في 3 يوليو 2013، ووافق معظمهم على ترشح المشير عبد الفتاح السيسى للرئاسة، وتصوروا أن الرئيس المنتخب وان كان من خلفية عسكرية الا أنه سيقود البلاد على طريق تحقيق أهداف ثورة يناير وخصوصا دعوتها الى اطلاق الحريات و احترام الكرامة الانسانية، ولكن لم توح بدايات العهد الجديد بقرب الوصول الى هذه الأهداف.الرئيس المنتخب وضع سقفا واضحا لحرية التعبير أكثر انخفاضا مما كان مألوفا في ظل سلفيه المخلوع والمعزول، هو يفضل حدودا لنقد شخص الرئيس، ويعتقد أن أمام مصر عشرات من السنين لتبلغ مدى الحريات المعروف في الغرب، وقد استوعب مالكو أدوات الاعلام بأسرها هذه الاشارات. لكن الجديد في أزمة المثقفين هو أن القسم الأعظم من الرأى العام لايقف معهم. في ظل حالة الاستقطاب التى صاحبت الحملة على الاخوان المسلمين لم يعد هذا القسم يقبل من آراء الا تلك التى تشدد علي الاقصاء الكامل للاخوان المسلمين من الحياة العامة ، وبأى سبيل، وأصبح يخون ويتهم بالعمالة للخارج من يدعو الى طريق ثالث، وانشغل قسم آخر من الرأى العام بضرورات الحصول على لقمة العيش، وصار يرى في الدعوة للحريات السياسية والمدنية مقدمة للفوضى وتأخيرا للنهوض المأمول للاقتصاد، بل وعاد أيضا بعض رجالات الأزهر للهجوم على المثقفين بخطاب لايختلف عن خطاب بعض تيارات الاسلام السياسى، فالتنوير الذى يدعون اليه فى رأيهم هو حملة ماكرة للتخلي عن الاسلام. أزمة المثقفين في ظل هذا العهد الجديد هي أكثر خطورة من كل ماعرفوه من قبل. رئيس الدولة لايختار من بينهم من هو أهل للثقة، فهو لايبدو ميالا لفتح قنوات للتواصل معهم،وآراؤهم سواء بالنسبة لقوانين الانتخابات أو الجامعات لا تلقي أى صدى لدى أجهزة الدولة المعنية، وهم لايجدون رأيا عاما مساندا لهم، وبعض قيادات الأزهر تناصبهم العداء. في ظل هذه الظروف آثرت شخصيات ثقافية بارزة الانسحاب من المجال العام سواء في الصحافة أو أدوات الاعلام الأخرى، وهكذا توارت قمم ثقافية ومبدعة بحجم علاء الاسواني ومحمد المخزنجى، وآثر آخرون أقل شهرة الانسحاب في هدوء، وتخلي باسم يوسف عن برنامجه الضاحك تحت تهديدات متعددة لشخصه وعائلته ، وتأخر عرض مسلسل أهل اسكندرية لبلال فضل . سيصبح الحقل الثقافي بل والحياة عموما أكثر فقرا عندما يختفي هؤلاء المبدعون أو ينتابهم اليأس من جدوى مايبدعون، وتختفي التعددية الضرورية في الحياة الفكرية، ويفتقد المجتمع حاكما ومحكومين من ينير الطريق لكشف مواضع الخلل والفساد، وتخسر الدولة المصرية ماتبقى لها من عناصر القوة الناعمة، وينفتح المجال أمام من يرون أنه لايوجد طريق آخر لتغيير أوضاع يضيقون بها سوى اللجوء للعنف. نحن جميعا ندفع ثمن تجدد أزمة المثقفين . لمزيد من مقالات د.مصطفى كامل السيد