فى 17 يناير عام 1977 تقرر رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية فى حياة المواطنين من بينها السكر والزيت والخبز والشاى والأرز والبنزين وغيرها من السلع . وكان الدكتور عبد المنعم القيسونى نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية آنذاك هو من أعلن هذه القرارات فى ظل نظام السادات. وفى 4 يوليو عام 2014 أعلنت الحكومة رفع أسعار الوقود بمختلف أنواعه وكذلك أسعار شرائح استهلاك الكهرباء والغاز الطبيعى وتلا ذلك قرار الرئيس عبدالفتاح السيسى فرض ضرائب وأسعار جديدة للسجائر والخمور المحلية والمستوردة وذلك بهدف تقليص عجز الموازنة العامة وإجراء إصلاح اقتصادى تأخر كثيراً لمعالجة الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد المصرى. ورغم الفارق الزمنى الذى يفصل بين هذين التاريخين، والذى يقدر ب 37 عاماً، فإن منظومة هذه القرارات فى كلا التاريخين، استهدفت تقليص الدعم وإجراء إصلاح اقتصادى، ومع ذلك فإن رد فعل المواطنين المصريين إزاء هذه القرارات كان مختلفاً إلى حد كبير. ففى التاريخ الأول أى بعد صدور قرارات زيادة أسعار بعض السلع الأساسية انطلق ما يعرف فى تاريخ المنطقة «بانتفاضة الخبز»، إذ سرعان ما تبلورت الاحتجاجات والتظاهرات ضد هذه القرارات من مختلف الفئات، فى مقدمتهم عمال المصانع فى المدن الكبرى، وغيرهم من الفئات المهمشة والموظفين والعاطلين عن العمل، وامتدت هذه التظاهرات لتغطى أنحاء مصر، واستمرت هذه التظاهرات طوال يومى 18، 19 يناير عام 1977، ولم تتوقف إلا بعد إلغاء الحكومة لهذه القرارات، وفرض حظر التجوال ونزول الجيش إلى الشوارع والمدن والميادين. والحال أن هذه القرارات مثلت صدمة كبيرة للمصريين آنذاك، لأن النظام كان قد وعدهم بالرخاء والرفاهية وانتهاء عصر الحروب واعتبار حرب أكتوبر آخر هذه الحروب، هذا فى الوقت الذى كان يرى المصريون فيه بأم أعينهم نتائج وتجليات إعلان سياسة الانفتاح الاقتصادى وتطبيقها، وفى مقدمتها ظهور طبقة من الرأسماليين الطفيليين الذين يتكسبون من الأدوار التابعة للاحتكارات والشركات الغربية ولا يقدمون أية إضافة صافية إنتاجية، راكمت هذه الطبقة الملايين والثروات وتبنت نمطا استهلاكياً فاخراً وفاجراً ومستفزاً لجمهرة المصريين الذين لم يكن نصيبهم سوى الوعود والأوهام. قرارات زيادة الأسعار فى 4 يوليو عام 2014 وما تلاها من قرارات، ورغم أنها تشترك مع قرارات 17 يناير عام 1977 فى الموضوع، وتنطلق من أفق ذات السياسات، أى تلك السياسات الليبرالية التى تعتمد على قوانين واقتصاد السوق ووصفة صندوق النقد الدولى وغيره من المؤسسات المالية الدولية، رغم كل ذلك فإنه فيما يبدو لم يترتب عليها حتى الآن احتجاجات وتظاهرات مماثلة لتلك التى حدث فى 18 و 19 يناير عام 1977، والتى جعلت من هذه القضية خطا أحمر لم تقترب منه أى من الحكومات طوال هذه العقود. والسؤال هو ما الذى جرى للمصريين؟ وما الذى يدفعهم إلى قبول قرارات تزيد من أعباء حياتهم؟ فى الوقت الذى كانوا يتطلعون فيه إلى مزيد من تحسين ظروف الحياة ومستوى المعيشة بعد موجتين ثوريتين متتاليتين؟ لماذا تميزت ردود أفعال المصريين بقليل من الغضب وكثير من النقاش حول هذه القرارات دون احتجاجات وتظاهرات عارمة لرفض هذه القرارات وحمل المسئولين على إلغائها؟ بالتأكيد من الصعب صياغة إجابة تحيط بعوامل تفسير هذه الحالة من كافة جوانبها، ومع ذلك فإنه يمكن القول إن الحكومة قد استبقت هذه القرارات بقرارات أخرى تتعلق بتقرير الحد الأدنى للدخول والأجور وكذلك تعيين سقف الحد الأقصى للأجور فى الجهاز الإدارى للدولة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات الاقتصادية المختلفة وذلك فضلاً عن زيادة عدد المستفيدين من معاشات الضمان الاجتماعى بعد زيادته وكذلك زيادة المعاشات، من الممكن أن تكون هذه القرارات قد حدت وطوقت بعض ردود الأفعال الممكنة. من ناحية أخرى، فإن التصريحات والأحاديث المتكررة التى سبقت وواكبت اتخاذ هذه القرارات سواء من قبل الحكومة والمسئولين أو الرئيس المنتخب حول حقيقة الأوضاع الاقتصادية وتزايد الديون وخدمتها وأعبائها على الخزانة العامة قد خلقت لدى المصريين وعياً جديداً بضرورة تخطى هذا المأزق، وقبول بعض التضحيات الممكنة فى سبيل إنقاذ الاقتصاد ومستقبل الأجيال القادمة. لقد خلقت الموجتان الثوريتان المتتاليتان فى 25 يناير عام 2011 و30 يونيو عام 2013 مناخاً جديداً فى مصر، يتميز بعودة المواطن إلى الاهتمام بالشأن العام والسياسة عموماً والمشاركة فى الحوار العام وصنع القرارات وإن كان ذلك فى حدود لا تزال وليدة ولم تتجذر بعد. إن حصيلة ذلك فى جانب منها قد تتمثل فى اعتبار المصريين أنفسهم كمواطنين شركاء فى اتخاذ القرار وأن هذه الشراكة قد تتلخص فى الوقت الراهن فى قبول هذه القرارات وإن على مضض إذا ما كان ذلك ضرورياً - وفق الخطاب الرسمى - للمرور إلى التنمية ومكافحة الفقر وانطلاق الاقتصاد. صمت المصريين عن الأمن والدولة والاستقرار وتأييدهم للسيد عبد الفتاح السيسى باعتباره رمزاً لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة، قد يحمل المصريين على قبول هذه القرارات وتحمل تبعاتها على حياتهم، ولكنهم فى جميع الأحوال يرصدون ويترقبون النتائج ويتطلعون إلى تحقيق العدالة فى توزيع الأعباء. قبول المصريين الحذر لهذه القرارات لا يعنى بالضرورة نجاح هذه السياسات، ذلك أن النجاح يرتهن بأن تكون هذا السياسات الخاصة بالأسعار والدعم جزءا لا يتجزأ من خطة اقتصادية اجتماعية شاملة ذات أهداف محددة خاصة بالتنمية المستدامة ومكافحة الفقر والارتقاء بمستويات المعيشة والدخول، وأن تطرح هذه الخطة للنقاش العام من جانب كل القوى السياسية والفاعليات المدنية للتوافق حولها وإقرارها وتلك هى الضمانة الرئيسية للنجاح. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد