حدثنى على باشا رفاعة (الطهطاوى) قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعاً، استحضر والده رفاعة بك وعهد إليه بأن يجتهد فى إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب (أى الكتابة فى الشريعة على الطريقة الحديثة)، وقال له: إنك منهم، ونشأت معهم، فأنت أقدر على إقناعهم، فأخبرهم أن أوروبا تضطرني- إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون، فأجابه رفاعة: إنى يا مولاى قد شِخت، ولم يطعن أحد فى دينى، فلا تعرِّضنى لتكفير مشايخ الأزهر إياى فى آخر حياتي، فأقلنى من هذا الأمر، فأقالهس. هذا ما يرويه الأستاذ الإمام محمد عبده كاشفاً عن السياقات التى اضطرت ضمنها القوانين المنسوبة إلى شريعة الإسلام إلى ترك مكانها لمنظومة قانونية مغايرة تتفق ونوع العمران الحديث الذى كان يتبلور فى مصر آنذاك؛ أى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. واللافت هنا هو ما يظهر من أن الأستاذ الإمام لا يدين ما فعله الخديو اسماعيل من إحلال ما قيل إنها «شريعة نابليون» محل القوانين المنسوبة إلى شريعة الإسلام، بل إنه يوجه الإدانة إلى ما يعتبر أنها «جناية شيوخ الأزهر على الشريعة». وهو يعنى بهذه الجناية «قعودهم عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب فى الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة مُرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية، وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب فى إنشاء المحاكم الأهلية، واعتماد الحكومة على قوانين فرنسا، وإلزام الحكام بترك شريعتهم وحرمانهم من فوائدها». وهنا يقدم الأستاذ الإمام الدليل العملى على ما لاحظه خير الدين التونسي- من قبل- من أن ترك الحكام- بل وحتى العوام- للشريعة هو نتاج تقاعس العلماء والشيوخ عن النظر فيها بما يجعلها موافقة لحال العصر، ومُستجيبة لأسئلة الواقع. وللغرابة فإن هؤلاء الشيوخ قد برروا تقاعسهم ابأنهم يحافظون بذلك على الشرع، وطريقة سلفهم الأزهرى فى التأليف، (حيث اعتبروا) أن تأليف كتاب أو كتب (فى الشريعة) يُقتَصر فيها على القول الصحيح، ويُجعَل بعبارة سهلة، مُقسماً إلى مسائل تُسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين (الأوروبية)، من البدع الهادمة لتلك السُنَّة التى جرى عليها الميتون من عدة قرون. وإذا كان قد جرى اعتبار الخروج على سنن الموتى من قبيل «البدع» التى تئول بصاحبها إلى الضلالة، فإن المرء يتفَّهم اعتذار الطهطاوى، حين طالبه الخديو إسماعيل بإقناع شيوخ الأزهر بأن يتركوا سنن الموتى ويكتبوا فى الشريعة على الطريقة الحديثة، مخافة أن يطعنوا فى دينه. وهكذا فإن إخراج الشريعة من المجال العام فى مصر قد تحقق بإرادة أصحاب الشأن من القائمين على حراستها من شيوخ الأزهر، ولم يكن قراراً من جانب سلطة غاشمة كما كان الحال فى الهند. وبسبب جمودها، فإن خروج الشريعة من المجال العام كان ضرورياً بعد أن ضاقت عن الاتساع للوقائع المستجدة فى حياة الناس؛ وبما أدى بها إلى الصمت أمام ما يُعرَض عليها من المسائل، وعلى النحو الذى اضطر معه أهلها إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها. بل إنه قد اظهر للناس بالاختبار أن المحاكم التى يُحكَم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف من المحاكم التى تُسند شريعتها إلى الوحى السماوي؛ وبما يعنيه ذلك من أن شريعة الإسلام لم تعد- مقارنة بشريعة نابليون- أضمن للحقوق أو أقرب للتناصف. ومن هنا أنه ليس من الغريب أن يكون شيوخ الأزهر أنفسهم من الذين يتحاكمون إليها (أى إلى المحاكم التى تحكم بشريعة نابليون)، فالشيخ العباسى رفع إليها بعض القضايا، وكان شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية، وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشرى تحاكم إليها فى قضية تتعلق بأوقاف الأزهر، وكان له مندوحة عن ذلك، فكانت جنايتهم على الشريعة أنهم أضاعوا القسم الأكبر منها، وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذى هو فخرهم ولو بالباطل، ينالون به الزلفى فى نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدونب. وهكذا فإن ما قيل إنه «حفظ الشريعة» لم يكن - فى حقيقته - إلا ضرباً من المحافظة - بلغة الأستاذ الإمام - على «التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة»؛ وهى المحافظة التى لم تذهب فحسب بروح الدين والشريعة، بل إنها ذهبت برسومهما أيضاً. فإن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان، أمور ووقائع لم يُنَص عليها فى هذه الكتب (الموروثة)، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ هذا لا يُستطاع، ولذلك «ضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية ولجأوا إلى غيرها». ولعل فى هذا الذى أدركه الأستاذ الإمام من أن العجز عن جعل الشريعة موافقة لحال العصر قد انتهى إلى ترك الناس لها، ما يقوم دليلاً على أن تغيُّر أحوال العمران يستلزم تغييراً فى الأحكام، وإلا فإنها ستتحول إلى محض عباراتٍ فارغة لا فعل لها فى الواقع. وغنيٌّ عن البيان أن دوران الأحكام مع حال العمران ينبنى على فرضية أن الشريعة ليست هى تلك الأحكام الجزئية المخصوصة بحال العمران فى لحظةٍ ما، بقدر ما هى جملة مقاصد وأصول كلية ذات جوهر ثابت؛ وفقط فإن الأحكام هى الإجراءات الواقعية العملية التى تحقق هذه المقاصد بما يتناسب وأحوال العمران القائم. وللغرابة فإن ذلك يعنى أن «المدنى» يلعب دوراً حاسماً فى تحديد «الشرعى»؛ فهل يمكن فهم دلالة ذلك؟!. لمزيد من مقالات د.على مبروك