عندما سمع الشاعر «ووردزورث» أن البابا نصَّب نابليون إمبراطورا على فرنسا قال: «إنه فِعل مُخزٍ أن نرى شعباً يأخذ درسا من كلب». تلك المقولة لا تلخص موقف الشاعر الإنجليزى وحده من مفهوم السلطوية التى مثلتها دولة نابليون بل تلخص موقفا تاريخيا لكل الذين عينتهم أقدارهم كخازنين على القيم الإنسانية. وطالما جددت تلك القضية الحديث عن تمثيلات مُرْبِكة لدى الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر الذى رحل عنا فى مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات. وأظن أننا فى حاجة أكبر لتفسير احتفائه بتلك البصقة الثقيلة على وجه السلطوية، بعد أن عاين كثيرين يمشون مخفورين بوقع أقدامها الثقيلة، بينما يصدحون بالصوت الزاعق الذى يستحسنه العامة من حناجرهم عندما يعتلون منابر يشتمون منها السلطة فى أول الليل ويقبضون عطاياها فى هزيعه الأخير. فى مواجهة هذه المخازى احتفى مطر بالحرية، ورغم أنه لم يكن ماركسيا إلا أنه آمن بموقف ماركس الذى اعتبر أن حرية الفنان هدف فى حد ذاتها لأن الشاعر يحرر نفسه عبر الكتابة باعتبارها تعبيرا عن اتحاده الجدلى مع الطبيعة، ومن ثم فإن هذا الوعى كان السبيل لتبديد اغترابه واغتراب مجتمعه فى وجه السلطوية بما تمثله من كوابح داعمة لأنماط التفكير المستقر، لذلك فإنه على المستوى المعرفى كان مشغولا حد التحرُّق بضمانات الوجود المتساوى فى فضاء مزكوم بالعدالة. وثمة إشكاليات كبرى تحيط بمطر وبمفهومه للشعر والعالم، وبحكم ثقافته الواسعة والعريضة وموقفه الرافض لسلطة النقد وسلطة السياسة فى آن؛ فقد تحول إلى مرمى لاتهامات غير محصورة. فمشروع عفيفى مطر الشعرى، رغم وقوفه كتفا بكتف إلى جانب كبار شعراء العربية المحدثين، لم يلق من الاهتمام ما يكافئ مكانته، حيث رماه البعض بالمروق ورماه آخرون بالغموض دون اعتبار لكون التهمتين من أبرز امتيازات حداثتنا الشعرية. فقد ترعرعت تجربة مطر فى إطار صيغة الدولة القومية وظلالها السلطوية التى اصطَفَت شعراء وأقْصَت آخرين وكان معيار التلاحم ليس رهنا للقيمة قدر ارتهانه للولاء والخضوع للنمذجة السياسية. انسحب الأمر أيضا على تكتلات اليسار التى دعمت اللجاجة الشعرية والصوت العالى المعضد بالكثير من الغوغائية على نفقة الجوهر الجمالى للفن. صحيح أن نقادا كبارا، مثل محمود أمين العالم ولويس عوض، دافعوا عن مطر إلا أن التجربة فى مجملها لم تكن واحدة من تصورات اليسار السياسى عن الفن ومفهومه. فقد التبست وظيفة الفن ووظيفة الشعر على نحو خاص لدى كثيرين من صفوة النقد والشعر فى آن، غير أن تلك الوظيفة لم تكن مخلصة لمعيارها الجمالى كما كانت لدى عفيفى مطر، لذلك ظل بتجربته أبعد الشعراء عن المنبرية والخطابية التى حوّلت الشعر إلى موعظة وإلى نمط أخلاقى يُفقد الفن وظيفته التثويرية فى الوقت الذى يجب فيه أن يظل رافضا لكل تَكَيُّفٍ أيا كان مصدره. ربما هذا ما يفسر لنا كيف كان مطر ضد النمذجة بكل ما تعنيه، كونها تعبيرا قامعا، لذلك ظلت قراباته رافضة لعوالم الرأسمالية الغشوم وكذلك لعوالم التخلف المحكومة بالعشائرية والقبلية. ورغم أن مطر كان يعتز بمفهوم الالتزام كمرجعية معرفية وأخلاقية إلا أن ذلك لم يفقده القدرة على الموازنة بين فرائض الشعر ونوافل السياسة لاسيما فيما يتعلق بالمخازى التى وصمت غالبية الشعراء الذين ارتضوا أن يكونوا جزءا من كتائب التبرير السياسي. ورغم تهمة الغموض التى طالما التصقت به إلا أن قصائده عن التراجيديا الريفية والخرافة الشعبية كانت رائدة فى انفتاحها على مناطق بكر فى الشعرية العربية ، وقد ظلت ولاتزال وقودا لتيارات من الأجيال الشعرية التى تتلمذت عليه. إن مفهوم الالتزام هو ما صنع من مطر موقفا كليا لا ينفصل فيه السياسى والمثقف عن الشاعر الرائى. وقد ارتبط محمد عفيفى مطر بحزب البعث العراقى لفترة ليست طويلة وكانت عملية اعتقاله بتهمة قلب نظام الحكم واحدة من مهازل الدولة الأمنية لعصر مبارك، وكان من نتيجة ذلك تعزيز نفوره من السلطوية. غير أنه، كقومى عربي، كان من أشد المؤيدين لصدام حسين كجزء من موقفه الرافض للحرب على العراق، وهو موقف كان يتساوق مع رفضه الجازم للمركزية الأورو أمريكية، وربما هذا مادفع بعض الثعالب الصغيرة التى كانت تتربص به إلى اتهامه بالدفاع عن ديكتاتور أوغل فى دم شعبه وكذلك اتهامه بمعاداة الحداثة على خلفية رفضه لهيمنة المركز الأوروبي. والمؤكد أن موقف مطر من تلك المركزية يتأسس على اعتقاده الراسخ بأن ما حدث ويحدث للعرب يعد البرهان الفاضح على زيف وكذب تلك المركزية. فالثقافة العربية، فى رأيه، «مُهانة مُحتقرة وأجساد أصحابها حشو لجنازير الدبابات ومرمى لآخر ما ابتدعته الأذهان الشريرة من رصاص وقنابل». وأذكر أن الروائى والناقد إدوارد الخراط كتب دراسة طويلة انتقد فيها الموقف شبه التكفيرى لمطر من الآخر الغربى واعتبره موقفا إيديولوجيا لايتسق مع الموقف الواجب للشاعر الذى لا بد أن يكون «منفتحا على الوعى الإنسانى على شموله»!! ولم تكن تلك الرؤية إلا تمهيدا لإقصاء مثل هذا النموذج الشعرى لشاعر بحجم محمد عفيفى مطر باعتباره نموذجا يزكى فكرة الصراع غير المتكافئ حسب رأى أنصار الحضارة الغربية. ومن المدهش أن تتحول تشوفات الرجل إلى حقائق مؤلمة على الأرض العربية منذ الخامس والعشرين من يناير حتى لحظتنا الراهنة. لقد كان مطر يحلم بتحقق مقولة «إليوت»: «إن القوة الحقيقية تكمن فى خلق ثقافة مشتركة بين شعوب مختلفة» بينما كان أعداؤه يبحثون عمن يأخذ بيدهم إلى حيث يخلعون جلودهم تحت أضواء عواصم الغرب حتى لو تحول الشاعر فيهم إلى خنزير من الدرجة الثانية. لمزيد من مقالات محمود قرنى