من المفترض أن رمضان شهر الصيام. وبالتالى فإن ما يباع من المواد الغذائية. من المتوقع أن ينزل إلى النصف. ولذلك أتصور حالة ركود بالأسواق. أليس شهر التفرغ للعبادات؟. وليس شهر الإقبال الجنونى على الشراء. ولكن الواقع يقول قولاً آخر. زحام فى الأسواق. لا يوجد موضع لقدم. لا تعرف من أين أتت الأموال من شعب يعانى من مشاكل اقتصادية. من معه يشترى حتى لو كان الشراء تعبيراً عن وجاهة اجتماعية. ومن ليس معه يسلى صيامه بالفرجة على من يشترون. والزحام فى الأسواق. أى مكان فيه بيع وشراء. الخضر. الفاكهة. الخبز. الدجاج. اللحوم. الأسماك. وهناك أسواق رمضانية مستحدثة. يباع فيها الطرشى والكنافة النيئة أو الجاهزة. والقطايف. ومن لا يحب إعداد الكنافة والقطائف فى بيته. فهو يشتريها جاهزة. ولذلك يكثر الزحام على محلات الحلويات الشرقية أكثر من أى وقت آخر خلال العام. ولا ينافس زحام الأسواق السلبى سوى الزحام حول المساجد. بعد الإفطار تبدأ صلاة التراويح. وهى شئ جميل لا نراه إلا فى رمضان. لكن كل من يذهب لكى يصلى صلاة التراويح يستقل سيارته الخاصة ويتركها أمام المسجد. وتلك عادة مصرية. لا يقل لى أحد أن الذاهب لصلاة التراويح أفطر منذ ثوانٍ معدودة ولا يحب المشي. فأجدادنا نصحونا أن الإنسان بعد تناول الطعام أن يتمشي. من يذهب لصلاة التراويح يركن سيارته أمام المسجد. ومع مرور الوقت يغلق الشارع. وترتفع كلكسات السيارات لتجعلنا لا نستمع لأصوات التراويح. والأزمة نفسها تتجدد عندما ينصرف المصلون. لأن كلا منهم ركن سيارته وكأن الشارع ملكه. ألا ترى حجم التناقض بين الذهاب للمسجد لأداء صلاة التراويح والتصرف بأنانية شخصية عند ركن السيارة وعدم مراعاة سيارات الآخرين. وأيضاً ترك الشارع لمرور الناس. وفى الإسلام مبدأ يقول إن قطع الطريق لا يبرره أى مبرر حتى لو كان أداء فريضة أو القيام بعبادة. أتجنب النزول لوسط البلد فى رمضان. وفى مدينة نصر أبتعد عن الطرق الرئيسية. وأبحث عن طرق فرعية. لدرجة أن عقل الإنسان يتحول لخريطة من كثرة البحث عن هذه الطرق. أراعى ألا تكون فى الطرق مدارس ولا أسواق ولا محال كبري. لأن الطرق تقفل فى هذه الأماكن ويستمر إغلاقها لساعات. ويغيب رجل المرور. ويتطوع أكثر من سائق أو عابر أو شخص يسلى صيامه. بأن يتطوع من تلقاء نفسه حتى ينظم المرور. وهو لا ينظم أى شئ. بل إنه يقوم وبكفاءة عالية. بعملية “لخبطة المرور” حتى يصل الأمر إلى الطريق المسدود. تصبح الشوارع الكبرى سجادة مفروشة بالسيارات. والشوارع الفرعية تراها كما لو كانت تحولت إلى جراجات فى لحظات ذروة الركن بها. وهكذا لا تنفعك كل الخرائط التى شغلت ذهنك برسمها. من أجل اكتشاف أقل الشوارع زحاماً. فى ساعات ذروة المرور وهى ساعات مستمرة على مدى اليوم والليل. والأسواق مثل المرور مستمرة ليلاً ونهاراً. والزحام أمام المدارس يشتد لحظة الدخول إليها والخروج منها. والمحال بعضها مفتوح على مدى 24 ساعة مستمرة. فأين المفر؟ لا يملك الإنسان ترف البقاء فى بيته شهراً كاملاً. ويخاصم الشوارع. حتى لو كان ذلك باسم الاعتكاف الرمضاني. الذى نقله البعض من البيوت إلى المساجد. خاصة فى قرى الريف المصري. أما عن العمل فأنصحك بألا تذهب إلى أية مصلحة لك فيها مصلحة. لأن نهار رمضان يمضى كأنه دقيقة. ينتهى قبل أن يبدأ. الموظف إما صائم. يسبح على المسبحة من لحظة دخوله العمل حتى خروجه منه. أو أنه فى وقت الصلاة ولا عمل فيه. يتأخر موعد بدء العمل من الثامنة إلى العاشرة. ويتقدم وقت الانتهاء من الثانية إلى الواحدة والنصف. وربما الثانية عشرة والنصف. فأين المفر إذنً؟. أين رمضان الذى غنى له محمد عبد المطلب وأحمد عبدالقادر أغنيات ما زالت بالغة الجمال. نسمعها من أول وجديد مع كل رمضان وكأن الإبداع الرمضانى قد توقف عندهما. أؤمن ان القرى خلقها الله. لكن المدن بناها البشر. والمسحراتى صاحب الطبلة الكبيرة. الذى يلف شارع البلد الرئيسي. الذى نسميه داير الناحية. وحواريها وأزقتها الصغيرة. ينادى أفراد الأسرة كلا باسمه يبدأ بصغار السن. وينتهى بكبارهم. كانت المناسبة الوحيدة التى يتقدم الصغير على الكبير لمجرد أنه مازال طفلاً. نسعد عندما نسمع أسامينا على لسانه. بصوته العالى الجهوري. يعقب الإسم خبطة على طبلته. تقلع النوم من الجفون. وتسرق الأحلام من النيام. نفزع من نومنا جرياً وراءه. يبدأ من بحرى البلد ومعه طفل واحد. وينتهى قبلى البلد ومعه كل أطفال القرية. حفيدتى أمينة – تسع سنوات – تصر على أن رمضان إنسان. له دم ولحم. وشكل جميل. تسأل عنه فى نور النهار الساطع. وبحر أنوار الليل التى تعوم فيها البلاد. تطلب منا أن نذهب إليه. تريد أن تصافحه. أن تتكلم معه. ولا نستطيع أن نشرح لها أن رمضان شهر وليس إنساناً. إدراكها العام لم يصل إلى هذه التفاصيل الصغيرة. لكننا فى كل مرة نكذب عليها. تلك الأكاذيب البيضاء. ونقول لها إنه نام. وعندما يستيقظ سنذهب إليه. أو نحضره إلى البيت. لتتكلم معه وتسمع منه. وتراه رؤيا العين. مراهنين على أن ذاكرة الطفلة أضعف ما فيها. لكنها تفاجئنا بعد يوم وبعد ليلة بمعاودة السؤال عن رمضان. ونحن نضحك على أنفسنا قبل أن نضحك عليها. ونرد ردوداً تؤجل الأمر. نقول لأنفسنا ربما كانت الحياة معقولة ومقبولة كلما كثرت الأحلام المؤجلة فيها. لا اعتراض لى على أن كل رمضان إيقاعه الخاص. يكفى منظر المدينة بعد رفع الأذان. أو ضرب المدفع. كأن يداً امتدت ومسحت الناس من كل مكان حيث تبدو المدينة مغسولة بالصمت والسكون. وقت قصير من الهدوء المستحيل؟ رغم قصره. فالنظر لشوارع خالية من الناس لا تصدر عنها أية أصوات يشعرك أنك امتلكت مدينتك ولو للحظة. أحب كل ما يأتى به رمضان. زحام الأسواق. تكدس المرور. هوس الشراء. حتى وإن كانت هذه الأمور ضد روحانية الشهر الكريم. لمزيد من مقالات يوسف القعيد