يأتينا شهر رمضان من كل عام بحديث معاد ومعهود عن مفارقة التناقض بين قيم ومغزى الشهر المبارك، وجلها حرمان الجسد «وإمساك الجوارح عن شهواتها» وبين الانفجار في الاستهلاك الغذائي المصاحب لشهر الصيام فيقول تحقيق صحفي في الأهرام إن المصريين يأكلون خلاله من الأطعمة 70% أكثر مما يأكلون بقية أشهر السنة، وحوالي ضعف ما يأكلونه من لحوم، وثلاثة أضعاف اللبن والزبادي، وذلك في غضون سبع ساعات، يفترض أن قسما منها يقضى نوما. توبيخ المصريين على استهلاكهم الغذائي خلال شهر الصيام ليس جديدا، وقدمه موثق في الأغنية الشهيرة خفيفة الدم لصباح مع فؤاد المهندس «الراجل ده هيجنني» وتعود إلى الستينيات وإلى عصر ما قبل السوبر والهايبر ماركتوالمول والسومون فيميه والستيك الياباني. حقا، اتسم موسم التوبيخ السنوي بحدة خاصة هذه الآيام، بسبب استحكام الأزمة الاقتصادية والركود المصاحب لسنوات ما بعد الثورة، وبفضل التنافس الإعلامي المحموم على نفاق الرئيس، بما يشمل بالضرورة دعوته للتقشف ومسعاه لضرب المثل فيه، وهو ما دفع احدى المذيعات للصريخ في مشاهديها: «هو فيه أيه؟» بعد أن شاهدتهم يشترون الياميش. ويبقى السؤال: من هم المصريون؟ حتى في أيام التقشف الحقيقي، وحين كان أكثرنا ثراءً متوسط الحال بمعايير اليوم، حتى في ذلك الزمن السحيق، كم من المصريين يا ترى كان بإمكانهم مجرد أن يحلموا بوجبة إفطار تشمل زوزة بالخلطة وبفتيك وصينية مكرونة، وخضار صنفين وكباب حلة وضلمة باللحمة المفرومة كما تسرد إحدى قوائم الإفطارعند صباح وفؤاد المهندس في الأغنية الشهيرة. وفقا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لمجلس الوزراء، 6 من كل 10 أسر مصرية تعيش على 20 ألف جنيه في السنة، أي حوالي 1500 جنيه في الشهر. أسرة واحدة من كل مائة أسرة مصرية يتجاوز دخلها السنوي 75 ألف جنيه، أي حوالي 6000 جنيه في الشهر، و2 من كل 10 مصريين يعيشون دون حد الفقر المدقع، ويقدر ب 2 دولار في اليوم. الياميش عند أكثر المصريين هو البلح المجفف وأغلبيتهم العظمى متقشفون إجبارا. الرأسماليون المصريون ومن يدورون في فلكهم ويأكلون ياميشا وخلافه مما لذ وطاب على موائدهم، لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عن ال 99% الآخرين من أبناء هذا الشعب. جرب الحديث مع أحد هؤلاء عن الشعب المصري لتجده يجأر بالشكوى من خدم المنزل، ويتفلسف عن الكسل والقذارة وكثرة الانجاب وعدم النظام فضلا عن أسطورة العمل ساعتين في اليوم. فاجأت ثورة يناير الرأسمالية المصرية مثلما فاجأت بقية فئات الشعب، بما فيهم الشباب الذين فجروها والملايين التي شاركت فيها. هلت الثورة والطبقة الحاكمة (داخل جهاز الدولة وخارجه) أسيرة حالة بلادة كؤود، مطمئنة وراكنة ومسلمة أمرها لأولي الأمر فيها، أي الرئيس وبطانته وداخليته. كان هناك مع ذلك قدر من التذمر في الصفوف، فجمهرة الطبقة تجحد على كبار الأوليجاركيين الاستئثار بالحصة الأكبر من الكعكة، ومشروع التوريث يثير القلق من المستقبل، ويكتسب القلق حدة أشد بين بعض أقسام كبار رجال جهاز الدولة، خشية من توريث أوسع نطاقا يستبدل بطانات ببطانات، ومن مستقبل أكثر اضطرابا وأقل استقرارا بسبب التوريث الجمهوري في حد ذاته، وبسبب رعونة «الشباب» الصاعد وعجرفته، ولهم في الصعود المبهر للسيد أحمد عز مؤشرمخيف لمخاطر كل من الاستئثار والرعونة. قلق وتذمر لم يكن له أن يرقى مع ذلك لمجرد تصور إمكانية طرق باب السياسة، وهو ما تؤكده الخيبة المزمنة للحياة الحزبية، وقد وصلت عشية ثورة يناير إلى نوع من الهزل تبدى صارخا في استيلاء الحزب الحاكم استيلاءً مطلقا على البرلمان، بعد أن قرر اقصاء الإخوان عنه، وبعد أن فشل في هندسة الانتخابات ليعطي حزبي الوفد والتجمع حصة معقولة استكمالا للديكور. ولم يكن الفشل الهندسي لمجرد العجرفة وانعدام الكفاءة والخبرة المميزة لطاقم ولي العهد، ولكنه يعود في المحل الأول للتكالب المحموم بين صفوف وجهاء الحزب الحاكم على التواجد في الغرفة التجارية المسماة برلمانا، لا حبا في السياسة ولكن طمعا في نصيب أكبر من العطايا. فلم يكن للتذمر والقلق أن يذهب أبعد من مؤامرات صغرى من وراء الستار، ومساع لبعض كبار رجال الأعمال لتمييز أنفسهم ولو قليلا عن الطاقم الحاكم من خلال تدخلات إعلامية قوامها الاستفادة بعض الشئ من الاحتياجات الديكورية للنظام. جاءت ثورة يناير وأعلى ما في خيل كبار رجال الأوليجاركية المباركية موقعة الجمل. وبعدها، تُرك الأمر كالعادة في أيدي جهاز الدولة، ممثلا في المجلس العسكري وصفقته المباركة أمريكيا مع الإخوان المسلمين، وجل الهدف منها إعادة الشعب المصري إلى الحظيرة. ومع ذلك، وبرغم عشرات الصفقات والمؤامرات الكبرى والصغرى، فتحت الثورة المصرية آفاق استعادة المجال السياسي الرسمي، بعد أن صنعته صنعا في ميادين البلاد وشوارعها، وهو ما فرض حتما وإجبارا على بعض أقسام الرأسمالية المصرية محاولة التواجد السياسي، حزبيا وانتخابيا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على ما عهدوه عقودا من مذلة واستزلام للقائمين على جهاز الدولة، وهم المنوط بهم وضع الحدود الصارمة على ذلك المجال، تقييدالما يفسحه من حريات ديمقراطية، وترويضا لملايين يعتزمون استخدامها تأكيدا لحقوقهم، ومحاصرةً للجشع غير المحدود لمجتمع الواحد في المائة. ليس في الأمر جديد تماما في الحقيقة، رغم كل ما يميز الرأسمالية المصرية عن قريناتها في العالم من خيبة متميزة، ومن نشأة لقسمها الأعرض من داخل جهاز الدولة، ومن عقود طويلة من تسليم أمرها للبيروقراطية،ومن اتحاد عميق للسلطة والمال. في كل مكان، من بريطانيا إلى البرازيل، الديمقراطية صناعة الفقراء، ومجال تحقيقها هو الشارع. لمزيد من مقالات هانى شكرالله