هل يمكن أن تكون مصر دولة خليجية على الأقل من منظور الأمن الاستراتيجى للطرفين المصرى والخليجي؟ السؤال مهم، كان ومازال شاغلنا منذ سنوات طويلة لكن النخبة المصرية الحاكمة طيلة العقود الأربعة الماضية كانت أبعد ما تكون عن الاهتمام بطرح مثل هذا السؤال أو البحث فى وضع قواعد وأسس راسخة لنظام تعاون أمنى مشترك لا على المستوى المصرى – الخليجى ولا على مستوى النظام العربى ككل. فالنظام الذى حكم مصر ابتداءً من عام 1971 تأسس على قاعدة "تخفيف الأعباء القومية" على القرار الوطنى المصري، وانسلاخ مصر من ارتباطاتها القومية ابتداءً من السماح لتيار مصرى بعينه بالتشكيك فى "عروبة مصر" وامتداداً للبحث عن بدائل لأخرى تعالج مشكلة الهوية بالتردى أحياناً فى دعوة "الفرعونية" وأحياناً أخرى "المتوسطية" إلى أن انتهى بنا المطاف بتوقيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيونى الذى فتحت الأبواب على مصراعيها أمام موجات عاتية من التبعية للأمريكيين ومعوناتهم التى دمرت استقلالية القرار الوطنى وانحرفت بمساراته من ارتباط أزلى أمنى ومصلحى وقبل ذلك ارتباط الهوية بالعروبة إلى ارتباط ماسخ بشبكة علاقات مع الكيان الصهيونى كان هدفها الإجهاز على الدور المصرى عربياً وإقليمياً، وعزل مصر عن عروبتها، وإعادة جدولة منظومة أولويات مصالحها الوطنية وجعل السلام المصري- الإسرائيلى أولاً، ثم السلام العربى – الإسرائيلى ثانياً جوهر الدور البديل لمصر. فى ظل هذه المنظومة الجهنمية كان من العبث البحث فى علاقة أمن استراتيجى تربط مصر بذلك الجزء شديد الأهمية والحيوية من الجسد العربى فى مشرقه الجنوبي، ولذلك تحولت علاقة مصر بالخليج إلى مجرد "علاقة مقاولة" تقوم مصر بأدوار محددة من جانب أطراف أخرى وتحصل على الثمن إما نقدياً وأما عينياً فى شكل السماح لمصر بحصة من العمالة الأجنبية فى الخليج لا تمس قيد أنملة ذلك التوازن الجهنمى بين مكونات تلك العمالة كما تديرها أجهزة الأمن الخليجية كى لا تطغى جنسية على أخرى تحسباً لتجنب أية ضغوط من الدول صاحبة تلك العمالة، وإن كان التفوق المطلق دائماً للعمالة الآسيوية تحت وهم أنها عمالة "غير مهددة"، أى لا تمثل مصدراً لتهديد الأمن الداخلى مثل العمالة العربية ذات الأطماع فى الثروة الخليجية. لقد اتفق الأمريكيون والإيرانيون مصلحياً واستراتيجياً، دون اتفاق رسمى على أمرين مهمين: أولهما، رفض أى وجود عربى فى أمن الخليج تحت مسمى "رفض أى وجود أجنبي". وثانيهما، رفض أى صيغة للوحدة أو الاندماج أو التعاون بين الدول العربية الخليجية. فقد بقى مجلس التعاون مجرد إطار تشاوري، ورغم ذلك رفضه الإيرانيون ونبذوه، أما الأمريكيين فقد فرضوا أنفسهم بديلاً لأى دعوة اتحادية أو اندماجية عسكرية أو حتى اقتصادية خليجية. ظهر ذلك جلياً عندما رفضوا التوقيع على اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجى وأصروا على توقيع اتفاقيات منفردة مع كل دولة على حدة. الآن نحن أمام واقع جديد وحقائق جديدة ونحن نجدد السؤال القديم: هل يمكن أن تكون مصر دولة خليجية؟ نحن أولاً أمام اختلال هائل فى توازن القوى الإقليمى بين العرب والقوى الإقليمية الثلاث: إيران وإسرائيل وتركيا بعد إخراج مصر من معادلة التوازن الإقليمى منذ توقيعها معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، حيث لم تعد مصر قوة مضافة للقوة العربية، بل لم تعد هناك قوة عربية حقيقية قادرة على مناطحة أى من القوى الإقليمية الثلاث مع تحييد القوة المصرية وتفريغها من مضمونها بجعل مصر دولة رخوة يعتمد اقتصادها على مصادر التمويل الخارجى ، وبعد تدمير العراق والجيش العراقى وتحويل العراق إلى دولة فاشلة وبؤرة متخمة بالصراع العرقى والطائفي، وبعد إغراق الجيش السورى فى حرب أهلية أجهزت على قدراته بقدر ما دمرت معظم مصادر القوة السورية، كل هذا يحدث ومصر هى الأخرى تعانى من تداعيات أزمة أمنية واقتصادية هائلة تشغلها عن دور مهم عربياً وإقليمياً ينتظرها. ونحن ثانياً، أمام مجلس تعاون خليجى يعتقد أنه يعيش أزهى عصوره بعد أن غيبت الصراعات السياسية والموجات الثورية العواصم العربية الكبرى الثلاث: القاهرة ودمشق وبغداد، وبعد أن يغب المغرب العربى فى صراعاته الداخلية وخلافاته البيئية وارتباطاته الأورومتوسطية. بعض النخب الخليجية تعتقد أن مجلس التعاون الخليج هو صاحب القرار العربى الآن وأن هذا هو "عصر الإرادة الخليجية" لأن المال الخليجى له مفعول السحر الآن فى إنعاش أو إخماد من يريد، لكن الواقع الفعلى يضيف إلى ذلك حقائق أخرى أبرزها أن مجلس التعاون الخليجى يواجه ما يُعرف ب "تحدى اختلال المكانة" أى عدم التجانس فى مصادر القوة القادرة على تحقيق الأمن الذاتي. فإذا كان الخليج يملك الأموال، فهو لا يملك غيرها من مقومات القوة، وهو فى حاجة إلى أن يتكامل مع أطراف أخرى عربية ليحقق "تجانس المكانة" اللازمة ليتحول إلى قوة حقيقة. ومجلس التعاون الخليجى فضلاً عن ذلك يعانى الانقسام حول مسائل استراتيجية مهمة باتت تهدد استمراره خاصة الانقسام حول دعوة تحويل المجلس إلى اتحاد خليجي، هناك من يؤيد وهناك من يعارض وهناك من يرفض صامتاً. والانقسام حول إيران هل هى مصدر للتهديد أم دولة صديقة مجاورة، والانقسام حول قطر، والانقسام حول قضايا وأزمات عربية: انقسام على الموقف من مصر ومن الأزمة السورية والآن من كل ما يحدث داخل العراق، ونحن ثالثاً أمام تشكك فى جدوى استمرار المراهنة الخليجية على الحليف الأمريكى كضامن وجيد للأمن فى ظل الخروج الأمريكى غير المنضبط من العراق وتسليمه لإيران حسب رؤية أطراف خليجية، وفى ظل التوجه الاستراتيجى الأمريكى الجديد نحو إقليم شرق آسيا بدلاً من الشرق الأوسط، وفى ظل التقارب الأمريكى مع إيران والإقرار الأمريكى بتمكين إيران من امتلاك برنامج نووى سلمى دون تنسيق مع الدول الخليجية التى تخشى أن يتحول التقارب الأمريكى مع إيران إلى إقرار أمريكا بأدوار وحقوق إقليمية لإيران على حساب دول الخليج، وفى ظل تقاعس أمريكا عن إسقاط نظام بشار الأسد حسب ما كان يريد الخليجيون، ونحن رابعاً أمام صعود للتنسيق الإيراني- التركي، وظهور قوى للقوتين الإيرانية والتركية فى الشأن العربى على حساب الأداء الهزيل للنظام العربي، وأمام تطلعات إسرائيلية للتقارب مع دول خليجية لمواجهة إيران والإرهاب باعتبارهما عدو مشترك للطرفين، لكننا أيضاً أمام حقيقتين كبيرتين أخريين: أولهما، أن الأمريكيين مازالوا متشبثين بنفوذهم فى الخليج ولن يقبلوا طواعية بدخول مصرى قوى إلى الخليج خاصة فى ظل أزمة مكتومة بين واشنطنوالقاهرة سببها رفض الأمريكيين لثورة 30 يونيو وإصرارهم على إدماج الإخوان فى العملية السياسية المصرية الجديدة، ونحن أيضاً مع رفض إيرانى لأى وجود أجنبى فى الخليج عربياً كان أم غير عربي، فشلوا فى إبعاد الأمريكيين، لكنهم يعتقدون أنهم قادرون على إبعاد العرب. ثانيهما، ذلك التداخل القوى بين الأمن الخليجى والأمن العربى من ناحية والأمن الإقليمى من ناحية ثانية فى ظل التغلغل الإيرانى والتركى القوى فى معادلات الأمن والسياسة العربية. كيف يمكن مواجهة كل هذه التحديات ومن أين نبدأ؟ والإجابة تبدأ من حيث بدأ الآخرون ومنهم إيران وتركيا. فقد أسست إيران وتركيا مجلساً للتعاون الاستراتيجى على مستوى الحكومتين خلال زيارة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركى لطهران فى يناير الماضي، وجاءت زيارة الرئيس الإيرانى لتركيا (9 – 10 يونيو الجاري) ضمن أعمال هذا المجلس، وأوروبا سبقت الدولتان عندما أسست "مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي" ليكون إطاراً لتفاعلات وعلاقات تعاونية بدلاً من تفاعلات وعلاقات الصراع. نجن فى مصر ندرك ونعتقد أن أشقاءنا فى الخليج خاصة السعودية والإمارات يدركون أيضاً أن مصالح مشتركة وحوافز مشتركة نابعة من قاعدة "توازن المصالح" تفرض علينا اليوم قبل الغد أن نؤسس لمجلس تعاون استراتيجى ثلاثي: مصرى – سعودى – إماراتى يكون نواة لتأسيس ما يُعرف بإطار "الجماعة الأمنية" Security Community يحقق للأطراف الثلاث "تجانس المكانة" أى "تكامل القدرات" الذى تفتقده، يكون مفتوحاً للانضمام، بالإرادة الحرة، لمن يريد من الدول العربية الشقيقة يكون هدفه خلق كتلة عربية قادرة على أن تعتمد على الذات فى إحداث معادلة توازن قوى إقليمية مع القوى الإقليمية الأخرى خاصة إيران وتركيا. النجاح فى تأسيس معادلة توازن قوى فى الإقليم سيكون كفيلاً بإقناع الأطراف الأخرى بالانخراط فى مسعى جديد للعلاقات الإقليمية يقوم على قاعدة "توازن المصالح" من خلال تأسيس "مؤتمر الأمن والتعاون فى الشرق الأوسط" بين الكتلة العربية (مصر والسعودية والإمارات) وإيران وتركيا كمنتدى يوفر إطاراً للتشاور والتنسيق، وبلورة مجموعة من سلوكيات التعامل مع الأزمات وإجراءات بناء الثقة التى تساعد فى احتواء الأزمات وتعزيز الدبلوماسية الوقائية والاستباقية وعندها فقط يمكن أن نأمل فى فرض معادلة استقرار أمنى إقليمي.