عندما نتحدث عن الفلاح المصرى فنحن نتحدث عن كتلة من البشر تمثل أكثر من 27% من إجمالى العاملين فى مصر. الفلاح المصرى خارج معركة الحد الأدنى للأجور، فقانون العمل ينص صراحة على استبعاد العمال الزراعيين من تحت مظلته. بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تؤكد أن 36% من المشتغلين فى القطاع غير الخاضع لقوانين العمل والتأمينات (القطاع غير الرسمى) يقعون تحت خط الفقر. الفلاح مستأجر الأرض الزراعية ليس بأفضل حالا. ففى مثل هذا الشهر منذ اثنين وعشرين عاما صدر القانون رقم 96 لسنة 1992 المعروف بقانون تحرير إيجارات الأراضى الزراعية. القانون رفع إيجارات الأراضى بأكثر من 300% فى قفزة واحدة، من 7 أمثال الضريبة على الأراضى كحد أقصى إلى 22 مثلا، على أن يسرى ذلك خلال فترة انتقالية مدتها خمس سنوات وبعدها يترك الأمر للتفاوض بين المالك والمستأجر. فى نهاية مدة الخمس سنوات يحق للمالك أن يطرد المستأجر إذا لم يكن راغبا فى تأجير الأرض. الفلاح مستأجر الأرض كان عليه أن «يدير حالة» خلال الفترة الانتقالية،من كان يملك القدرة المالية منحه القانون الحق فى شراء الأرض بالثمن السائد فى السوق، من يستطيع تحمل الإيجارات المرتفعة الجديدة كانت لديه الفرصة للبقاء فى الأرض إذا وافق المالك على التأجير. أما صغار الفلاحين فكان مصيرهم الطرد من الأرض، مع وعد من الحكومة ظلوا فى انتظار تنفيذه إلى يومنا هذا، بأن يتم تعويض المتضررين من القانون بتأجير أراض بديلة لهم من أراضى الإصلاح الزراعى. أعداد ضخمة من صغار الفلاحين تحولت دفعة واحدة من مزارعين حائزين لأرض إلى عمال زراعيين خارج حماية قانون العمل وأى حماية تأمينية. نقطة البدء فى الإيجارات الجديدة كانت 22 مثلا للضريبة على الأطيان تسرى خلال مهلة الخمس سنوات، ولنا أن نتصور مدى ارتفاع الإيجارات بعد انتهاء تلك المهلة. القانون يتحدث عن ترك الأمر للتفاوض بين المالك والمستأجر، وكأننا نتحدث عن قوتين متساويتين! الواقع شئ مختلف. الإيجارات ارتفعت بنسبة 500% . النمط السائد للعلاقة بين المالك والمستأجر للأراضى الزراعية صار يتمثل فى العقود غير المسجلة، الفلاح أصبح معرضا للطرد فى اللحظة التى يريدها المالك. لم يعد هناك حد أدنى لمدة الإيجار. عقود الإيجار صارت قصيرة المدة وأحيانا تكون لمدة موسم زراعى واحد بعدها يتم التعاقد على زيادة جديدة فى الإيجار. قانون تحرير الإيجارات نص على تسجيل الأرض فى الجمعيات الزراعية باسم مالك الأرض وليس باسم الفلاح الذى يقوم بزراعتها فعليا. الأسمدة والمستلزمات الزراعية المدعمة من الدولة صارت تسلم للمالك الذى يقوم فى كثير من الأحيان ببيعها فى السوق، لكى يشتريها الفلاح الذى يقوم بزراعة الأرض فعليا بالسعر المرتفع. الدعم الذى تتحمله الموازنة العامة للدولة، ونتحمله نحن كدافعى ضرائب، صار يذهب للمالك وليس للفلاح. وما بين الإيجارات المرتفعة للأراضى الزراعية ولهيب أسعار الأسمدة ومستلزمات الإنتاج ارتفعت تكاليف الانتاج الزراعى، وصار على الفلاح أن يتجه إلى زراعة المحاصيل التى يتوسم أن تعطيه عائدا يغطى تلك التكاليف. لم يعد هناك علاقة بين نمط وحجم المحاصيل التى يتم زراعتها وأولويات احتياجات المجتمع المصرى، بعد أن انتهى العمل بنظام الدورة الزراعية الذى كان يتغلب على مشكلة تفتيت الملكية وصغر الحيازات من خلال تقرير زراعة محاصيل محددة فى مساحات كبيرة من الأراضى. نظام الدورة الزراعية كان يحدد ما يتم زراعته فى المناطق المختلفة وفقا لأولويات احتياجات الاقتصاد المصرى ومتطلبات الحفاظ على خصوبة الأرض وعدم إجهادها، ويوفر الشروط المواتية لاستخدام الميكنة ورفع إنتاجية الفدان فى ظل نظام فعال للإرشاد الزراعى. اختفى كل ذلك. صرنا بلدا مستوردا صافيا للغذاء، وتدهورت إنتاجية الفدان من المحاصيل التقليدية، رغم ارتفاع معدلات استخدام الأسمدة والمبيدات إلى مستويات قياسية. السادة رافعو لواء اقتصاد السوق يتحدثون دائما وكأننا بدعة بين شعوب الأرض. استقرار عقود الإيجارات الزراعية أمر قائم بالفعل فى الدول الرأسمالية العريقة. فى فرنسا تتراوح عقود تلك الإيجارات بين تسع سنوات و18 سنة، فى انجلترا ينص قانون الإيجارات الزراعية على أنه إذا لم يحدد العقد دورية تغيير الإيجار فيحق لكل من المالك أو المستأجر أن يطلب تعديل الإيجار مرة كل 3 سنوات، وإذا رغب المستأجر فى ترك الأرض فعليه أن يخطر المالك قبلها بمدة كافية تصل إلى خمس سنوات ولاتقل فى كل الأحوال عن سنة. ألا يعطينا ذلك كله فكرة عن مدى استقرار عقود الأراضى الزراعية فى انجلترا وطول مدتها؟ الفلاحون يطالبون بعقود إيجارات زراعية مستقرة لا تقل عن خمس سنوات، وبأن تتحدد القيمة الإيجارية بحسب جودة الأرض والعائد الفعلى لها. يطالبون بزيادة المقررات الموزعة بالجمعيات الزراعية من مستلزمات الانتاج المدعمة وبأن يتم تسليمها للمزارعين الفعليين وليس الملاك. باختصار الفلاحون يريدون أن يتبقى لهم بعد دفع إيجار الأرض وتكاليف الإنتاج حد أدنى من الدخل يكفل الوفاء بالاحتياجات الأساسية لهم ولأسرهم. الاقتصاد المصرى فى حاجة لعودة العمل بنظام الدورة الزراعية وإحياء أجهزة الإرشاد الزراعى والإفادة من علم وخبرة آلاف المهندسين الزراعيين وعشرات المراكز البحثية الزراعية كى ترتفع إنتاجية الأراضى الزراعية ويرتفع دخل الفلاح ونملك قوت يومنا ولا نظل تحت رحمة تقلبات السوق العالمية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى