يبدو أن بلاد الرافدين تعيش أسيرة لتاريخها، العراق يأبى أن يفارق تاريخه، أو أن يفترق عن الزمان الذى عايشه، زمن وتاريخ من المحن والنكبات التى أصابت قاطنيه ومواطنيه من العرب والعجم، من كل الملل والنحل، وكأن الخروج من هذا التاريخ ومن هذا الزمان مستعص، إلى الحد الذى يجبره على إعادة إنتاج المحن وكأنها قدر لا مفر منه ولا راد له. فى العقد الأول من الألفية الثالثة وعقد الثمانينيات من القرن العشرين توالت على هذا البلد الشقيق والعريق المحن وكأن العراق على موعد معها، فمن محنة العيش والحياة تحت ظل حكم صدام حسين إلى محنة الحرب العراقيةالإيرانية، ومن محنة غزو الكويت إلى الحملة العسكرية الغربية ثم إلى محنة الغزو الأمريكى والاحتلال الأمريكى البريطانى له، والذى فتح الباب أمام الطائفية وحكم نورى المالكى الطائفي، الذى يبدو وكأنه يمارس الانتقام للشيعة فى مواجهة السنة الذين يعتبرهم المالكى القاعدة الاجتماعية والمذهبية لحكم الرئيس العراقى صدام حسين. الحكم المذهبى والطائفى فى العراق أفضى إلى إعادة إحياء المذهبية والتخندق المذهبى والإفصاح عن أسوأ صور التطرف والإرهاب التى تمثلت فى ظهور «داعش» وهى اختصار لتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام والذى يحظى ببعض تعاطف الطائفة السنية وفلول النظام العراقى السابق على الاحتلال كنتيجة للسياسات الطائفية الظالمة التى يطبقها نورى المالكى المدعوم من إيران والتى استهدفت إقصاء السنة وبقية طوائف الشعب العراقي. تمكنت داعش نتيجة تفكك المجتمع العراقى وغلبة السياسات الطائفية فى مؤسسات الدولة العراقية بقيادة نورى المالكى من السيطرة على الموصل ومعظم بلدات الأنبار وغيرها من المدن العراقية وأزالت العلامات الحدودية بين العراق وسوريا وبين العراق والأردن وكأنها لا تعترف بتلك الحدود التى وضعها وقننها اتفاق سايكس بيكو المعروف فى عام 1916 والذى صاغه مارك سايكس وجورج فرانسو بيكو وكلاهما يمثلان المدرسة والمؤسسة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، ولم تعرف بهذا الاتفاق الدول العربية إلا بعد قيام الثورة البلشفية فى عام 1917 عندما أعلنت الحكومة السوفيتية بنود هذا الاتفاق. ومنذ ذلك التاريخ وطيلة العقود الماضية لم يخل أى كتاب للتاريخ على الصعيد العربى الرسمى وغير الرسمى من إدانته لمؤامرة تقسيم المشرق العربى وفق ذلك الاتفاق وانتقاد النية المبيتة والمقصودة للقوى الاستعمارية فى تقسيم بلدان المشرق العربى المؤهل بطبيعته الجغرافية والجيوبوليتيكية والثقافية للوحدة والاندماج، وغلبة المصالح الاستعمارية وكذلك الأهداف على طبيعة هذا التقسيم وفلسفته. وبرغم إدانة هذا الاتفاق وأهدافه ومنطقه فإن هذا الاتفاق قد صمد طوال ما يقرب من المائة عام التى تلته وحظى بدعم إقليمى ودولي، وتم الاعتراف بالدول التى نتجت عن هذا التقسيم كأعضاء فى الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية، وقد تمت إدارة هذه الأقاليم والدول التى نجمت عن التقسيم والاتفاق وفق بعض القواعد والأعراف وبعض الأسس القانونية والنظام العام، وبرزت خلال هذه الفترة رموز النضال العربى والقومى التحررى واستمرت التعددية والتنوع وبعض الصيغ الديمقراطية، لقد وضع الانتداب أسس إنشاء الإدارات العامة والمؤسسات والتشريعات التى مثلت جزءا لا يتجزأ من البنية المؤسسية والدستورية لدولة ما بعد الاستقلال الوطنى، وذلك بالطبع باستثناء دولة فلسطين التى سهل فيها الانتداب البريطانى إقامة دولة إسرائيل العنصرية فيها بعد الوعد البريطانى المشئوم فى عام 1917. تكمن المفارقة الكبرى لدى مقارنة تاريخ هذه الحقبة التى شهدت ميلاد سايكس بيكو، وما تضمنته فترة ما بعد التقسيم من ملامح سياسية وقانونية ونضالية، بالوقت الراهن الذى تسيطر فيه «داعش» على بعض الأقاليم والمدن العراقية وترفع فيها الرايات السوداء التى تعلن انتماءها صراحة وبلا مواربة للقاعدة، للأسف ستظل هذه المقارنة لمصلحة حقبة سايكس بيكو، حتى لو لم تعترف داعش بالحدود التى نجمت عنها وأزالتها. ليس من الممكن القضاء على التمذهب والاختلاف حول النص الديني، فهذه الظاهرة ارتبطت بجميع الأديان التوحيدية ولم تقتصر على الإسلام والمسلمين، ولكن من الممكن دائماً أن يبقى هذا التمذهب وهذه المذهبية فى الإطار العقدى والفكرى بعيداً عن الممارسة السياسية. إن تحرير السياسة من العوامل غير السياسية أى العوامل الدينية والمذهبية، هى الحل الوحيد الممكن ليس فحسب أمام العراق والعراقيين ولكن أيضاً فى كل الدول العربية التى تنشد السير فى طريق تأسيس دولة المواطنة والمساواة وتقليص تأثير المرجعيات الدينية والمذهبية على المجال العام، وذلك يتطلب بادئ ذى بدء الفصل بين المجال الدينى والمجال السياسي. لن ينجح مسعى داعش لتجاوز حدود سايكس بيكو، وذلك باختصار لأنه تجاوز غير بناء يستند إلى المذهبية والإرهاب ويشيع الفوضى فى المنطقة، والعالم ليس بحاجة لدول جديدة خاصة فى هذه المنطقة باستثناء الحاجة الملحة والمشروعة لدولة فلسطينية وفق التسوية المطروحة منذ عقود للصراع العربى الإسرائيلي. إن تجاوز حدود سايكس بيكو من الممكن أن يتم عبر تأسيس دول المنطقة على أساس المواطنة الحديثة ودولة القانون، دولة كل المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية والطائفية وتبنى سياسات جديدة تستهدف الاندماج والتكامل والتبادل والمشاركة على أسس من المساواة والندية والتكافؤ والاختيار الحر وعبر مشاركة كافة المواطنين فى وضع السياسات وهذا هو الاختيار الوحيد الممكن لتجاوز سوءات وميراث سايكس بيكو. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد