من أسباب الخلل فى الفَتْوَى عدم فهْم الواقع الذى يعيشه السّائل والمسئول فهْمًا صحيحًا، فمن الناس من يجازف بالفتاوى فُيَحرِّم أو يحللِّ دون إحاطة كاملة بالواقع بعوالمه المختلفة، ومهما يكن علمه بالنصوص ومعرفته بالأدلة فإن هذا لا يغنى ما لم يؤيد ذلك بمعرفة الواقع المسئول عنه وفهمه بدقة، ففى الواقع العملى لا يوجد إفتاء إلاّ ومعه اجتهاد فى الوقائع والنوازل. وإذا كانت الفَتْوَى قد بلغت ذروة ازدهارها، فى القرنَين السّابع والثامن الهجريين، فقد شهدت القرون التالية وبسبب إغلاق باب الاجتهاد ضعف الاجتهاد الفقهى الى حد ما، على الرغم من تعرض المجتمعات الإسلامية لجملة من التحديات والأزمات والنوازل .
وفى عصرنا هذا طالب كثيرٌ من المجددين بضرورة إعادة النظر فى مؤهلات الاجتهاد، فى ضوء الواقع. وانتهوا إلى القول بضرورة الرجوع فى الفَتْوَى إلى أصحاب الاختصاص فى الدِّين الإسلامي، وتتحدد أدوات النظر الاجتهادى المنشود فى العصر الحاضر فى أدوات معرفية ست: أولها؛ اللغة العربية، وهى وعاء النص الشرعي، الذى جاء معبرا عن أساليبها وتراكيبها ونحوها وصرفها، مما يستلزم ضرورة التمكن من علومها، وإلا ظل فهْم النص الشرعى كليلًا، فمن لم يكن مدركًا لأسس اللغة وقوانينها وآدابها فى التعبير؛ فلن يمكنه التوصل إلى حُسن فهْم معانى النصوص ومراميها، ولا يليق به أن يبذل وسعه فى التوصل إلى المعانى التى تدل عليها نصوص الوحى الإلهي؛ لأنه لا يأمن من الخطأ فى تحديد المراد الإلهي. ولقد اختلف العلماء فى القدر الواجب على المرء تحصيله فى علوم اللغة، فمن قائل إنه لا بدّ أن يبلغ مبلغًا كبيرًا، ومن قائل ينبغى النظر إلى العربية فى مجال النظر الاجتهادى على أنها مجرد أداة للنظر الاجتهادي. وقيل: »العلوم التى هى آلة لغيرها، لا ينبغى النظر إليها، إلاّ من حيث إنها آلة فقط«. ومن ثم يكفى من علم اللغة قدر يعين المرء على تذوقها وفهْمها فهمًا سليمًا، بحيث يصبح قادرًا على فهْم نصوص الوحي، كتابًا وسُنة.
وثانيها؛ أصول الحديث؛ والمقصود بها معرفة الجانب الذى يعرفه علماء الجرح والتعديل بعلم الحديث رواية ودراية، ويتمثل ذلك فى التثبت من صحة ورود الحديث، وصدق رواته، ثم التوصل إلى المعانى المرادة منه شرعًا، ومن ثم فالمطلوب من الفقيه الإلمام بمبادئ أصول الحديث، وقواعد قبوله وردّه، وإتقان مبادئ الترجيح بين الأحاديث المختلفة، التى قد تتعارض ظاهريًّا، وقد اشتُرط كذلك حفظ عدد من أحاديث الأحكام؛ فضلاً عن إجادة مبادئ التمييز بين درجات الأحاديث، صحة وضعفًا، وقبولاً وردًّا.
أما ثالثها؛ فهو أصول الفقه؛ أى العلم بمجموع القواعد والمبادئ الأساسية الأصولية، التى يتوصل بها إلى حُسن فهْم المعانى المرادة للشارع من نصوص الوحي. وقد تنامت مباحث هذا العلم وموضوعاته ومسائله وتطورت على أيدى سائر علماء الأمة من محدثين ولغويين ومتكلمين وفقهاء الذين فصلوا مباحثه، ووضعوا قواعده. وانتهى علماء القرن السادس الهجرى إلى أنه العلم الأهم، الذى يحتاج إليه المرء للتأهل للنظر الاجتهادي، بكونه عماد الاجتهاد وركن بنائه الأساسي، الذى يُمَكِّن من إدراك الخطاب الإلهى ومراميه.
ورابع هذه المقومات علم المقاصد، وهو إدراك الغايات والحكم والأهداف الثابتة، العامة والخاصة، التى رتبها الشّارع الحكيم فى جميع أحوال تشريعاته المتعلقة بالفرد والمجتمع. يضاف إلى ذلك ضرورة التعامل مع كثير من مستجدات العصر وقضاياه، وتوجيهها وفق مقاصد الإسلام ورؤيته، إذ غدت الحاجة ملحَّة إلى إبراز الأهداف والأسرار التى تحتويها الشّريعة الإسلامية وتدل على صلاحيتها لكل زمان ومكان، وتبرهن على مرونتها وسعتها وقدرتها على تنظيم حياة البشر.
وخامسها علم الخلاف، وهو العلم الذى يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية، المختلف فيها بين الأئمة، أو هدمها، بتقرير الحجج الشرعية، وقوادح الأدلة، أو هو ما يعرف اليوم بالفقه المقارن، الذى يجمع الآراء الفقهية ويقومها، ويوازن بينها بالتماس أدلتها، وترجيح بعضها، ويُعنى علم الخلاف بإبراز مناهج الاستنباط والاستدلال وأصولهما المرعية عند الأئمة، الذين كانت لهْم مناهج خاصة فى فهم نصوص الوحى كتابًا وسُنة، مما يعين على حُسن التعامل معها، وفهم المراد منها، ولا يكون العالم عالمًا، إلاّ باستيعاب الاختلاف. وقد قيل فى ذلك: »لا ينبغى لأحد أن يفتى الناس، حتى يكون عالمًا باختلاف الناس«. وآخر هذه المقومات هى مبادئ العلوم الإنسانية المعاصرة، والمقصود بها المعارف التى تُعنى بدراسة الإنسان وواقعه من النواحي: الاجتماعية والنفسية والتربوية والسياسية والاقتصادية والقانونية والتاريخية، من أجل فهم المؤثرات فى توجهه وتطلعاته ورغباته، وإدراك الواقع المحيط به، وما يؤثر فيه، إيجابًا وسلبًا. كل هذا يتيح لمن يتصدى للإفتاء فهم معطيات العصر ومشكلات الناس. ويرى بعض العلماء فى العصر الحديث صعوبة النظر الاجتهادى المنشود فى ضوء أنواع التحديات وأشكال النوازل التى تموج بها الحياة المعاصرة، ما لم يكن لدى العالم بها معرفة موازية لمعرفته الدِّينية. وأن أى مؤسسة علمية تستبعد العلوم الحديثة من مناهجها لا يمكن أن تُعِد علماء قادرين على الاجتهاد فى قضايا عصرهم. ومن ثم يجب على علماء الدِّين فى عالمنا الإسلامى اليوم الاعتراف بأن آليات العلوم قد تطورت تطورًا هائلًا، ومن ثم يجب عليهم دفع أنفسهم وحث أبناء مجتمعهم على الأخذ بهذه العلوم وبيان أن من الواجب على الأمة الإسلامية ألاّ تفوقها أمةٌ أخرى مهما كانت فى كل علم ينفع الناس، بهدف إرشاد الحياة بتعاليم الدِّين السامية؛ ليتحقق لأبناء هذه الأمة الوسط، أن يكونوا بحق شهداء على الناس. لمزيد من مقالات د شوقى علام