قرأت ذات مرة، عن مدينة صغيرة، اشتهر سكانها ببيع زهور الفل للزائرين، بعدما يجمعونها من الشجر، ويصنعون بكل خمس أو ست زهرات شتلة صغيرة، تجمعت سيقانها حول عود خشب رفيع. وأن السيدات يشترينها لتزيين شعورهن في الصباح، عندما يكون السكان قد قضوا الليل في غزلها وهم جالسون على عتبات البيوت، وسط النسيم والأغاني، وأكواب الشاي الأخضر. يمشي زائرو المدينة بين هؤلاء السكان وطقوسهم، في طريق صاعد، قبل أن يصلوا إلى أعلاها، ليستقبلهم ساحل يعلو عن البحر بعشرات الأمتار، وتتجلى أمامهم أشعة الشمس ملتقية بماء البحر في ألوان، قيل أنها لا تتوفر لغيرهم. بعد سنوات، وفي الزيارة أولى، أخذتنا السيارة، عبر ممرات، بعضها مستقيم وبعضها منحني. كان صديقي منبهر بالبيوت المكسوة بالأبيض، وأبوابها الكبيرة المشغولة بالنحاس، ونوافذها الزرقاء، وكنت سعيدا بالرحلة الليلية، لكن انتشائي لم يكتمل، لأن أبواب تلك البيوت، جميعها، كانت مغلقة على سكانها، والشوارع خالية من المارة تماما. سألت سائق السيارة عن زهور الفل، وصانعوها. قال: في الصباح. في الزيارة الثانية ترجلنا. كنا في النهار، أبواب البيوت مغلقة كما كانت في المساء، وبعض الدكاكين تبيع المشغولات الخزفية الملونة، والمرصعة بأحجار زرقاء وعاجية اللون. بين شارع صغير وآخر وقف فتى يبيع زهور الفل. شاورت لمرافقتنا الجميلة عليه، فقالت: هذا اسمه «المشموم». لم يناسبني الاسم. ما هذه التسمية البسيطة، التي تلائم كل أنواع الزهور؟ بل التي تلائم كل ما له علاقة بحاسة الشم. انزعجت قليلا من البساطة التي وجدتها في التعامل مع شيء كنت خصصت له هالة معينة في زيارتي للمدينة، خصوصا وأن الفتاة الجميلة، التي ترافقنا، لم تكن تزين شعرها بواحدة منها. عندما انتبهت لاهتمامي، ابتاعت واحدة وأعطتني إياها، رحت أستنشقها بعمق، وحكيت لها ما قرأته، وأنني كنت أفضل رؤية أهل المدينة وهم منهمكون في صناعتها. ابتسمت وأدارت وجهها، بينما قال صديقي كلاما عن سذاجتي تجاه كل ما أقرأه. حاولت الحفاظ على الشتلة الصغيرة، لكن الخيط الذي يجمع سيقانها انحل، وعندما حاولت ربطه مرة أخرى، كان الذبول قد بدا عليها، واصفرت معظم أوراقها، لكنها احتفظت ببعض الرائحة حتى بعد منتصف الليل بقليل، قبل أن تذهب تدريجيا. في الليلة التالية، ودعنا الفتاة، التي دعتنا إلى سهرة منزلية دافئة، ومشينا في الشارع الضيق، لا نرى من نهايته غير ضوء خافت مجهول المصدر. تحسست بقايا الشتلة في جيب الجاكت، كان ملمسها يدل على جفافها تماما، وانفركت الأوراق الصغيرة بين أصابعي.