أتدري يا أبي ماذا حدث لي؟ أتعرف أين أنا الآن؟ سؤال وأكثر من سؤال بالمعنى ذاته يتكرر همسا أو صراخا في بال الإبن أو الإبنة كلما كانت السرحة لاستعادة حضور الأب مهما يكن قريبا أو بعيدا، وسواء كان «بابا» معنا في هذه الدنيا أم كان معنا ولو من بعيد في العالم الآخر.وهو بالتأكيد السؤال الذي لايبحث عن اجابة ما، بقدر ما يتم صياغته وطرحه أملا وتوقا الى لحظة حنين آمنة في حضور الأب وهو يطمئن على سلامة الابن أو يتأكد من «ابتعاد الشر وولاد الحرام» عن الابنة. والحديث عن حضور الأب وغيابه أو عن توصيف الأبوة وتعريفها حديث متواصل ومستمر، وخاصة لأنه حديث القلب والذاكرة والطفولة والنضج الإنساني كما أنه حوار الأحلام وقيود المجتمع والتحرر منها والثورة عليها.. ونقاش لدروس الحياة والنصائح في معرفة البشر. وهو أيضا حديث وجدل الحماية والأمان والرضا والقلق و«الرغبة في التواصل مهما كان صعبا» والحكم القاسي وتأنيب الضمير و«محاسبة النفس» و«ان كبر ابنك خاويه» و»الغائب الحاضر» و«الحاضر الغائب» و»أكيد هيكونوا أحسن مننا ان شاء الله»، وبالطبع تتزايد حدة الحديث وشدة النقاش الجدل مع اقتراب «يوم الأب» أو «عيد الأب» والاحتفال به أو الاحتفاء به في الولاياتالمتحدة ، ثالث أحد من شهر يونيو من كل عام. وكما يقال فان «يوم الأب» هو احتفاء تقديرا للآباء واحتفالا بالأبوة والروابط الأبوية وأيضا لدور الآباء ونفوذهم في المجتمع. وقد بدأت الفكرة في 1910 في سبوكاين بولاية واشنطن بالغرب الأمريكي عندما بادرت امراة اسمها سونورا سمارت دود بالاحتفال بيوم الأب. وقد طالبت به تقديرا لوالدها الذي قام بتربية سونورا وخمسة آخرين من أولاده بمفرده بعد وفاة الوالدة. فجاءت الابنة لتطلب تكريما لأبيها، وبعد سنوات طويلة وفي عام 1972 تحديدا أصدر الرئيس ريتشارد نكسون قرارا رسميا للاحتفال ب«يوم الأب». ومن أحدث الحكايات اللافتة للأنظار ونحن نتحدث عن الأب وبصمته الباقية والابن وذاكرته المتجددة قيام النجم السينمائي الشهير روبرت دي نيرو بالمشاركة في انتاج فيلم وثائقي عن والده الفنان التشكيلي وأيضا تسليط الأضواء على ابداعه الفني ولوحاته. والفيلم عرض منذ أيام وأثار اهتمام الكثيرين خاصة أنه عكس حرص الابن وهو في قمة شهرته وفي السبعين من عمره أن يقدم تقديره واعتزازه لفن والده الذي يجهله الكثيرون والأهم كما قال أنه مهموم أن يقدم لأبنائه الستة من كان جدهم وماذا فعل في حياته وبحياته. دي نيرو الكبير الأب في نظر دي نيرو الصغير الابن لم يأخذ حقه من التقدير وبالتالي يحاول هو الآن بما لديه من نفوذ وأموال وبصمات واضحة في الحياة الفنية في الولاياتالمتحدة وفي العالم أيضا «أن يرد الجميل لوالده». وقد حدث طلاق الأب لوالدته وابتعاده عن الأسرة وهو صغير وكانت العلاقة فيما بينهما «لم تكن على ما يرام» ومع هذا وبسبب هذا ربما تحمس دي نيرو الابن وسعى لاستعادة ما فاته وللحفاظ على استديو الأب في نيويورك كما كان دون المساس به. كما أنه اهتم بأعماله الفنية وأوراقه ومذكراته وفرشاته ولوحاته غير المكتملة بعد وفاة الأب في عام 1993. وقد شاهدنا مؤخرا دي نيرو الابن والدموع في عينيه وبعد عشرين عاما من غياب الأب يريد أن يحول ذكراه وما تركه من ابداع الى فرحة وشعور بالرضا وعرفان بالجميل. ولا بد من وقفة تأمل أمام ما قاله دي نيرو في لحظة ما « يا ليتني كنت أمضيت وقتا أطول مع والدي مستمعا اليه لكي أستطيع أن أتكلم بشكل أدق وأعمق عنه وعن أعماله وعن لوحاته». أما الحكاية الأخرى فبطلتها فنانة ممثلة وامرأة قوية وناشطة سياسية لم تهدأ ولم تتوقف أدوارها أبدا في حياتنا حتى يومنا هذا، وذلك رغم ما يقال ويتردد طبعا عن قسوة الزمان ومرور الأيام خاصة مع المرأة، وقد تم تكريم الممثلة الشهيرة جين فوندا منذ أيام على ما قامت به من أدوار في حياتها وما تركته من بصمات مميزة ومؤثرة في حياة الأمريكيين. وكانت جين فوندا قد قررت في لحظة ما أن تعيش من جديد مع والدها وأن تقترب منه أكثر لكي تعرفه أكثر. فجين فقدت والدتها وهي طفلة في ال12 من عمرها وكان أبوها الذي وجد معها في البيت الا أن هنري فوندا الممثل الشهير لأنه الرجل وتحديدا في ذلك الزمان ومن وسط غرب أمريكا كان صامتا بطبعه لا يعبر عن مشاعره ولا يسعى لكي يظهر أحاسيسه تجاه ابنته. فجين فوندا كغيرها من البنات افتقدن احتضان الأب.. وما أقساه من شعور وألم لا ينمحي عادة بمرور الأيام .الا أن الابنة جين فيما بعد وهي تعيد حساباتها وتقرأ من جديد أوراق حياتها وما فيها ومن فيها بدلا من أن تتمسك بحكمها السابق القاسي عن أبيها سعت لتعيد النظر في الحكم عليه ومحاولة فهم ما لم تفهمه من قبل. ولكي تحقق ذلك شاركت في انتاج فيلم «البحيرة الذهبية» (1981) وقام والدها هنري بالدور الرئيسي مع كاترين هيبورن ومعهما جين نفسها. ومن ثم حدث التقارب والأحاديث المتبادلة وال«فلاش باك» وتحققت اعادة النظر وبالتالي التسامح مع ما كان ماضيا مهما يكن والاحتفاء بالأب. وهذا الفيلم يعد أخر أفلام هنري فوندا وقد فاز بجائزة أوسكار لأحسن ممثل لدوره في هذا الفيلم ومات في العام التالي لعرضه وهو في ال77 من عمره. بالمناسبة جين وهي كانت تسعى لكي تكون في سلام مع نفسها ومع والدها وفي صراعها مع ماضيها كانت قد اقتربت من الخمسين من عمرها. وكما يقال عادة في مثل هذه الظروف: «أن يحدث هذا متأخرا خير من ألا يحدث أبدا». ونحن نتذكر الأب وغيابه أو حضوره الطاغي في حياة كل منا تأتي في بالي تلك الالتفاتة المدهشة والمبهرة التي عشتها وعايشتها ومازالت في ذاكرتي (والحمد لله) رغم مرور سنوات طويلة عليها.اذ في احدى الجنازات وبعد أن قام أحد أقرب أصدقاء الفقيد الأب وفي كلمة ألقاها بتذكير أهل الفقيد والأبناء والبنات والمعزين بمآثر المرحوم وأسهب في شرح معاني ما فعله الفقيد في حياته. وفي لحظة ما صمت للحظة ونظر الى الحاضرين ومن كانوا هناك من أهل «تعيش وتفتكر» ليقول في كلمات هامسة وموحية وسط الصمت المسيطر على المشهد. « أتعرفون ما أريد منكم أن تفعلوه في الدقائق الثلاثة القادمة.. أنني لن أتحدث عن الفقيد وسأقف صامتا.وأنتم معي في صمتنا معا عليكم أن تسترجعوا بذاكرتكم من كان الفقيد بالنسبة لكم وكيف تذكرونه الآن وما الذي تركه لكم؟ ومتى كانت الضحكة الصافية منه؟ ومتى كان الصمت المحير منه أيضا؟» هكذا تحدث الصديق وتركنا مع دقائق الصمت الثلاثة.. ترى لو طلبت منك أيتها القارئة العزيزة أن تفعلي الشئ نفسه وأنت أيها القارئ العزيز أن تلجأ للالتفاتة اياها .. نعم ثلاث دقائق لتكون مع أبيك لوحدك وأنت تتذكره كيفما تشاء .. وكيفما تراه أمامك وفي حياتك.. فهو الحاضر بدوره ونصيحته ونهيه وقلقه ونهره وغضبه وحكمته وحبه واحتضانه و«كنت فين يا بني.. قلقت عليك» و«امتى هيهدأ بالك وتعرف رأسك من رجليك.. وقيمة الحاجة اللي ربنا أعطاك» و«دايما بادعى ربنا .. وأكيد هيكون حالك أحسن مني بكتير». والحديث عن الأب لن يتوقف أبدأ .. أينما كان الابن أو كانت الابنة. وتتعدد اللغات و«بابا» دائما في البال. هكذا نسمع ونقرأ ونستمع ونستمتع ونتأمل دائما وأبدا. منذ فترة ليست ببعيدة قرأنا في صفحات مجاورة بهذا الملحق الكاتبة نوارة نجم تقول لأبيها الشاعر أحمد فؤاد نجم : «أين أنت؟ أما يكفي كل هذا الغياب؟ .. « وتقول أيضا «.. يالا بقى بلاش تسخف عليا، عد». أما الكاتب التركي أورهان باموق فقد احتفى بأبيه في خطاب فوزه بنوبل الآداب وهو يتحدث عن «شنطة أبي» ومافيها من أوراق وذكريات قائلا:«فكرت وأنا أحدق في حقيبة أبي: لا ينبغي أن أصدر عليه حكما مسبقا. لقد كنت أشعر بالامتنان له، على أي حال: فهو لم يكن أبدا أبا عاديا: آمرا، ناهيا، مسيطرا، معاقبا، ولكنه أب تركني دائما على حريتي، دائما أظهر لي الاحترام البالغ ». وهكذا دائما وأبدا نذكر ونتذكر حضور الأب وغيابه وذكراه وبصمته وكلمته وصمته.