أخبار مصر: بوسي شلبي تهاجم أبناء محمود عبد العزيز، قرار مصيري بشأن أزمة مباراة القمة، انفجارات تهز بورتسودان، انخفاض الذهب    رئيس الوزراء يتفقد اليوم المشروعات الخدمية والتنموية بالغربية    مائل للحرارة.. طقس الكويت اليوم الخميس 8 مايو 2025    انتصار تصور فيلمًا جديدًا في أمريكا    انفجارات قوية في بورتسودان والجيش السوداني يسقط عددا من المسيرات    باكستان تعلن ارتفاع حصيلة قتلاها جراء الضربات الهندية إلى 31    آخر تطورات أسعار النفط بعد تلميح أمريكا بمحادثات تجارية مع الصين    أبوبكر الديب يكتب: كيف تربح عندما يخسر الجميع ؟    بعد بيان وزارة المالية.. موعد صرف مرتبات شهر مايو 2025 للموظفين وتطبيق رفع الحد الأدنى للأجور    وزير خارجية سوريا: زيارة الشرع لفرنسا نقطة تحول بالنسبة لبلادنا    انخفاض سعر الذهب اليوم وعيار 21 يسجل 4810 جنيهاً    أعلام فلسطيني: 4 إصابات جراء قصف الاحتلال لخيمة تؤوي نازحين بخان يونس    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 8 مايو 2025    كمال الدين رضا يكتب: إصابات نفسية للأهلي    الأخضر بكام.. تعرف على سعر الدولار اليوم في البنوك    دور المرأة في تعزيز وحماية الأمن والسلم القوميين في ندوة بالعريش    السيطرة على حريق شب داخل شقة سكنية بالقاهرة الجديدة    حبس سائق توك توك تحرش بسيدة أجنبية بالسيدة زينب    اليوم، إضراب المحامين أمام محاكم استئناف الجمهورية    البابا تواضروس الثاني يصل التشيك والسفارة المصرية تقيم حفل استقبال رسمي لقداسته    قاض أمريكى يحذر من ترحيل المهاجرين إلى ليبيا.. وترمب ينفى علمه بالخطة    تفاصيل تعاقد الزمالك مع أيمن الرمادي    الطب الشرعي يفحص طفلة تعدى عليها مزارع بالوراق    أنطونيو جوتيريش: الهجمات الأخيرة على بورتسودان تُمثل تصعيدًا كبيرًا    بروشتة نبوية.. كيف نتخلص من العصبية؟.. أمين الفتوى يوضح    جامعة حلوان الأهلية تفتح باب القبول للعام الجامعي 2025/2026.. المصروفات والتخصصات المتاحة    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. نقيب المحامين: أي زيادة على الرسوم القضائية يجب أن تتم بصدور قانون.. شرطان لتطبيق الدعم النقدي.. وزير التموين يكشف التفاصيل    تفاصيل خطة التعليم الجديدة لعام 2025/2026.. مواعيد الدراسة وتطوير المناهج وتوسيع التعليم الفني    «التعليم» تحسم مصير الطلاب المتغيبين عن امتحانات أولى وثانية ثانوي.. امتحان تكميلي رسمي خلال الثانوية العامة    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    تفاصيل إطلاق كوريا الشمالية عدة صواريخ اتجاه بحر الشرق    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    هدنة روسيا أحادية الجانب تدخل حيز التنفيذ    محمد ياسين يكتب: وعمل إيه فينا الترند!    مستشار الرئيس الفلسطيني يرد على الخلاف بين محمود عباس وشيخ الأزهر    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    وزير الاستثمار يلتقي مع السفير السويدى لتعزيز العلاقات الاقتصادية    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    كم نقطة يحتاجها الاتحاد للتتويج بلقب الدوري السعودي على حساب الهلال؟    نقيب المحامين: زيادة رسوم التقاضي مخالفة للدستور ومجلس النواب صاحب القرار    بوسي شلبي ردًا على ورثة محمود عبدالعزيز: المرحوم لم يخالف الشريعة الإسلامية أو القانون    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    خبر في الجول - أشرف داري يشارك في جزء من تدريبات الأهلي الجماعية    لا حاجة للتخدير.. باحثة توضح استخدامات الليزر في علاجات الأسنان المختلفة    مدير مستشفى بأسوان يكشف تفاصيل محاولة التعدي على الأطباء والتمريض - صور    واقعة تلميذ حدائق القبة.. 7 علامات شائعة قد تشير لإصابة طفلك بمرض السكري    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    «لعبة الحبّار».. يقترب من النهاية    أحد أبطال منتخب الجودو: الحفاظ على لقب بطولة إفريقيا أصعب من تحقيقه    حدث بالفن| عزاء حماة محمد السبكي وأزمة بين أسرة محمود عبدالعزيز وطليقته    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    "الرعاية الصحية": تقديم الخدمة ل 6 مليون مواطن عن منظومة التأمين الصحي الشامل    صحة الشرقية تحتفل باليوم العالمي لنظافة الأيدي بالمستشفيات    أمين الفتوى: مفهوم الحجاب يشمل الرجل وليس مقصورًا على المرأة فقط    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر يا سيسى
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 06 - 2014

خد لى بالك منها واوعى تزعلها أو تكسر بخاطرها وحطها فى عينك درّة على جبينك ووردة فوق صدرك ومئذنة لفجرك ومسبحة فى يدك ودعوة لمن خلقك وكفّارة فى توبتك وسجادة لصلاتك وسجدة فى تلاوتك وفاتحة لعهدك وعروسة فى مرايتك ومنارة فى بحورك
وحجة لحجتك ولافتة فوق دارك وبوابة لتراثك ومجد لأصالتك وريادة لحضارتك وتذكرة لسفرك ومحطة لوصولك وعطر فى هدومك ووحى لإلهامك وهدى لكلامك.. وشهيقك وزفيرك، وخرزتك الزرقاء وحجابك من الحسد وخمسة وخميسة ورزقك ومحفظتك ولقمتك وغموسك وحلتك وغطاك، وتنصيبك ونصيبك وكلمة فى ودنك ودقة فى صدرك ونبض فى عروقك واختصار قولك ودخولك فى التفاصيل.. وأمك وأختك وبنتك وحفيدتك وجارك ونارك وثأرك وجيشك وشعبك، وشمسك وقمرك ونجمك، وسماءك وأرضك وعرضك، وسمعك وبصرك، وخطك وخططك، وحظك وحظوتك، وأستاذك ورئيس مجلس إدارتك، وإشارتك ومؤشرك، وقيادتك وقائدك، وحوارك وخطبك، وصلاتك ونسكك، وقلبك وراسك وخلاصك، وذراعك وكاهلك، ولسانك وحصانك، واسمك ورسمك، وكتابك وسفيرك، ومصحفك وإنجيلك، وسهلك وجبلك وسحابك ومطرك، وشتاءك وصيفك، ونبعك ومنبعك، وموردك ومصبك، ونيلك وقنالك، ونخيلك ولبلابك، وواحتك وريفك وحضرك ورملك وطينك وميدانك وحارتك، وصلاحك وصلاحيتك، وسيفك وصحيفتك، وحسابك ومحاسبتك، وقانونك ودستورك، ومشروعك ومشروعيتك، وحكمك وحِكمتك... مصر يا سيسى عصيّة وشعب كسر الخوف وشيكاً ليس على بياض، وشابة عصية أبية وعفية واللى سماها قوية عنده حول فى النطق.. مصر يا سيسى حيلة الجدع وتحويشة العمر ودراسة الجدوى وقراءة الفاتحة وكتب الكتاب وزينة الرجال وصلاة الزين.. مصر يا سيسى رخصة فنون وباسبور إبداع وبطاقة تموين وشهادة ميلاد وإذن نيابة وقسيمة زواج وخطاب استقالة واستمارة ستة وكارت توصية.. مصر يا سيسى أصل الحكاية والرواية والسلام عليكم وتصدق بالله واللى بالى بالك وأيام طه حسين وأحلام نجيب محفوظ والسواقى السبع وشهداء كرداسة وخيرة أجناد الأرض.. مصر يا سيسى قول يا باسط وارم بياضك وياما بكرة نشوف وياما واعقلها وتوكل ويا خفى الألطاف وأفوتكم بعافية وراسين فى الحلال وادلعدى واحنا ولاد النهارة والحق والمستحق وكل حى يروح لحاله وعلىّ الطلاق وعلى الحديدة ويعملوها العيال وشمَّع الفتلة وسلامتك وسمع هس.. و..مسافة السكة.. مصر الآن يومها يوم المرحمة.. مصر يا سيسى فوّت لها الغلط وابلع لها الزلط وبص لها بعين رضيّة دى مصر بتحبك وانت نور عينها وعمرها بالعمر ما لبت دعوة كائناً ما كان بطول أيامها وعمق تاريخها إلا أنت وكأنه الفرمان النازل لها من فوق، وخرجت لك عن بكرة أبيها فى عز البرد وعز الحر وسيف الإرهاب مرة واتنين وتلاتة ولو طلبت منها العشرة حتلبى وتقولك الحاضر يا حاضر أوجاعها وواعد بعيشها وحريتها وكرامتها خرجت لك بنسائها ورجالها وشيوخها وشبانها وبناتها وجدعانها ومرضاها وذوى الإعاقات داخل محافظات الوطن من بورسعيد لبنى سويف لشطانوف لشلاتين للواحات، وفى أراضى غربة الخمس قارات، تهتف لك تزغرد لك يوم نصرك باعتباره نصرها هى لابنها هى ومخلصها هو.. حدوتة مصرية.. مصر يا سيسى الآن صورة للشعب الفرحان.. وانت السبب.. انت اللى زرعت الأمل فى كل دار..
مصر يا سيسى حاكمها كالقابض على جمر نار، وكرسيها لا هو نزهة ولا ترف سلطة ولا منجد بريش النعام، وجراحها لم تزل نازفة والدم طازج بيغلى فوق رمال سيناء وعلى الأسفلت، وكل جمعة حريقة فى جامعة الأزهر، وقنبلة خسيسة مندسة عايزة خبرة فدائية للتفكيك تحت كوبرى مشاه وفى ثنايا أوتوبيس جنود حراس للحدود وفوق عامود النور على ناصية مدرسة أطفال.. مصر يا سيسى من غُلبها وضّق صدرها لسانها المصون انفلت منها، بعدما اتعاص ببذاءة الإخوان وعلى رأسهم مرشدهم حامل أختام السلطان القائل: طظ فى مصر.. والملفات الساخنة تظل مفتوحة، والنور بيقطع، والعيشة نار، والهموم لا تعد ولا تُحصى، والمسئولية يا ريس ثقيلة ثقل الجبال ومحملة بأحداث جسام وعلامات فارقة غيّرت مجرى التاريخ فى عصرنا الحديث من نكبة فلسطين فى 48 إلى العدوان الثلاثى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى 56، إلى هزيمة يونيو 67، إلى حرب أكتوبر 73 إلى مصير رؤساء وحكام كانوا يوماً ملء السمع والبصر من ملك مطرود «فاروق» بعد ثورة 52، ورئيس مستبعد «نجيب» فى إقامة جبرية ممنوع عليه المشاركة فى جنازة زوجته وابنه حتى لحظة وفاته، ورئيس «عبدالناصر» هزته الهزيمة وعبث قياداته فقام عبثاً بلم الشتات فى حرب الاستنزاف ليموت متأثراً بآلام النفس، ورئيس مات اغتيالا «أنور السادات» بعد معركة العبور وانتصار 73 وتحرير آخر شبر من أراضى الوطن المحتلة من إسرائيل، ومن بعده رئيس حكم 33 سنة أجبر على التنحى بعد ثورة 25 يناير 2011 وحُوِّل إلى المحاكمة والسجن والإهانة والمرمطة والإغماء وحده فى دورة المياه دون اعتبار لدوره البطولى فى حرب أكتوبر وفى إنجازات حققها فى سنوات حكمه العشر الأولى، وصولا إلى رئيس معزول «مرسى» باع البلد يهذى بالقرد والقرداتى والحاوى والأبلج واللجلج قابع فى زنزانته مع مرشده وجماعته الفاشية بعد ثورة 30 يونيو 2013 لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى.. و..الدايم هو الدايم والفشل ممنوع والعمل واجب..
ويا ريس لا تخشى من أن تلزمك كلماتك بالفعل فنحن بالفعل قد بدأنا الفعل، وقد أثرت فينا لأبعد حد وصية الرئيس المؤقت عدلى منصور عندما قال لنا فيها: استقيموا يرحمكم الله.. وسوف تجدنا بإذن الله قد استقمنا، وستصحو معك مصر السيسى فى تمام الخامسة لنعمل معاً، فالزعيم الحقيقى يكون بيننا ولا يقول لنا اسبقونى أو اتبعونى.. ولماذا بالله لا يكون فجرنا يقظاً معك وقد أصبحنا أخيراً ولأول مرة ننام ونحلم وفى البطن بطيخة صيفى بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من الأرق والسهاد وافتقاد الأمن والأمان.. أخيراً أصبح لنا رئيس اخترناه مع سبق الإصرار والترصد والحب..
رامى.. كلامه السحر
لأن لقبه كان شاعر الشباب، فقد ذهبت للشاعر أحمد رامى وأنا على أعتاب الشباب لأجرى معه حوارا صحفيا، ولأن الأستاذ مصطفى أمين كان يجلس إلينا كطلائع فى عالم بلاط صاحبة الجلالة يمنحنا خبرته، وينقل لنا وجهة نظره وتجاربه، فكانت من أولويات نصائحه أن نقرأ ونتعلم ونستفسر وننقب فى معالم وجوانب الشخصية التى سنلاقيها من قبل أن نلتقى بها لنستطيع من خلال معلوماتنا المسبقة عنها أن نخرج منها بأدق خفاياها فتجدنا أمامها محاورين، ولسنا فقط ناقلين نتلقى كحملة الحقائب إجابات القوالب السابق تحضيرها. ومازلت أذكر قوله: لا يمكن أن تسأل الشخصية مثلا عن تاريخ ميلادها، ولا عن عدد أولادها، ولا أين نشأت وترعرعت، فكل تلك الإجابات موجودة مسبقا فى سجلات الأرشيف، ومعروفة فى دوائر الأصدقاء، ومجرد السؤال عنها مضيعة وهدر من وقت صاحب الشخصية، ومن وقت لقائك بها.
من هذا المنطلق ولعلمى باقتراب مصطفى بك الشديد من دائرة سيدة الغناء وهو الذى كتب لها فيلم فاطمة أردت معرفة رأيه فيما إذا كان سؤالى المزمع لرامى عن علاقته بأم كلثوم من قبيل استفسارات الأرشيف، فأبحر بى مصطفى بك إلى شريان آخر فى نهر الإجابة قائلا: لم يكن رامى من رفض الزواج بأم كلثوم، لكنها هى التى رفضت لكونها خارقة الذكاء حيث أدركت أنها لو وافقت على الزواج به كما تمنى لفقدت شاعرا فياضا بالعاطفة كان بالنسبة لها كنزا يمكن أن يضيع ويتبدد لو تزوجته. كانت تؤمن بأن الحرمان يشعل عواطف الفنان، والشبع يأتيه بالنوم والكسل والخمول، وبهذا كان رفضها هو السبب الذى أجج عاطفة رامى وعذاباته مما جعله يعبر عن ذلك بأروع وأخلد قصائد وأغانى الحب والحرمان، ولو كان هو الذى رفض الزواج لما استطاع أن يكتب كلمة واحدة مما كتب، إذ أين هى دوافعه وعذاباته مادام الرفض جاء من جانبه هو؟ كيف كان يمكنه أن يكتب كمثال: ما بين بعدك وشوقى إليك.. وبين قربك وخوفى عليك دليلى احتار وحيرني.. من أين هذه العاطفة الجياشة والحيرة والعذاب الذى يعبر عنه إذا كان رفض الزواج قد جاء منه؟ ومن غير المنطقى أن يكون رفضه خوفا على إلهامه لأن إلهام الشعر ما كان يأتيه إذا كان العذاب والمعاناة أمورا مصطنعة ولسبب منه هو لا لسبب خارج عن إرادته.. من أين له أن يقول مثلا فى أغنية أخري: ياقاسى بص فى عيني.. وشوف إيه انكتب فيها.. دى نظرة شوق وحنية.. ودى دمعة بأداريها.. وده خيال بين الأجفان.. فضل معايا الليل كله.. هل يمكن أن يقول الشاعر هذا الكلام ويعبر عن ذلك العذاب الذى يعانيه ويعاتب حبيبته بكل هذه العاطفة والأشواق إذا ما كان الرفض جاء من جانبه هو؟
وذهبت قبل المواجهة.. من قبل الحوار مع الشاعر أحمد رامى أدرس تواريخه، وأجمع أحواله، وأسافر مع رباعياته، وأتملى بنوره، وأجوب معه القطر المصرى على ظهر حمار بشمسية على امتداد25 سنة، أتعرف على قرى مصر، ومدنها، ونجوعها، وذلك عندما قام بتحقيق ومراجعة وإخراج قاموس «البلاد المصرية من أيام الفراعنة» لصاحبه محمد رمزى مفتش المالية الذى كانت مهمته تقدير الضرائب على مستوى القطر فاتخذ من عمله منطلقا إلى وضع موسوعته الضخمة وتوفى من قبل طبع الكتاب فاشترته دار الكتب بمبلغ ثلثمائة جنيه وضعتها فى خزانة حديدية مفتاحها مع مدير الدار التى كان يعمل أحمد رامى وكيلا لها بعد عودته من بعثته للسوربون فى عام 1922 ليجيد الفارسية ويترجم رباعيات الخيام بمذاقه الخاص، وحدث أن غاب المدير فكان رامى مديرا بالنيابة وتسلم المفاتيح ليظل أربع سنوات من1950 حتي1954 تاريخ خروجه للمعاش يحقق ويراجع ويرتب العمل الضخم الجليل ليخرج به إلى النور.. وأتعجب لزهد رامى فى المال الذى لم يتقاض منه مليما واحدا مقابل أى من أشعاره وأغانيه وقوله فيه: النقود مستديرة علشان تجرى بسرعة.. وأروح معاه فى حب كل شيء فى الحياة حتى الهجران: ولما بعدك عنى طال حنيت لأيام الهجران، ولا تشغل البال بماضى الزمان ولا بآتى العيش قبل الأوان.. واغنم من الحاضر لذاته فليس فى طبع الليالى الأمان.
وعدت لمصطفى بك لأبدى له شجاعتى فى اختلاف وجهات النظر، نظره ونظرى بشأن زواج الفنان من حبيبته.. قلت له إننى لمست من عذابات رامى أنها كانت موضة العصر والموروث فى الشعر العاطفى فى العالم كله، الحبيب الذليل عندما يبكى عند قدمى حبيبته التى تتأبى عليه اعتزازا بجمالها ورغبة فى فرض سلطانها: «عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك»، النموذج السائد والقالب الذى يصور الحبيب جمرة من نار شديدة الاشتعال، ويقدم الحبيبة بوصفها كتلة ثلج لا يذوب ولا يعطف ولا ينعم بالوصال، والحبيب الغلبان راضٍ بناره، مستعذب بألمه، غير قابل لأى نصح من صديق أو عزول، أو حتى من الحبيب نفسه، وعدت أتغالب على أستاذى فى أن رامى من هذا المنطلق، أى بأخذه قالب الذل، كان يتخذه فقط لقول الشعر ليتماشى مع الموضة وإلا لما كتب أغنيات لأسمهان المنافسة لأم كلثوم، ولليلى مراد الصوت الجميل الواعد، ولا لمحمد عبدالوهاب المنافس الذى له كل الثقل ليغنى ويردد الجميع من ورائه الميه تروى العطشان وانسى الدنيا وريح بالك ومشغول بغيرى وحبيته، ومن وجهة النظر هذه تزوج رامى وغنت أم كلثوم للعروس: «اللى حبك ياهناه».. الزوجة التى عاشت معه فى التبات والنبات وخلفوا صبيان وبنات، الدكتور محمد، والمهندس توحيد، وإلهام المهندسة.. الزوجة الحبيبة رفيقة مشوار العمر التى جلست تهدهد مولودها البكرى محمد لينام على حجرها مشيرة بأصبع التزام الهدوء لرامى الجالس فى محرابها: النوم بيلعب فى عينه، فألهمته: «النوم يداعب عيون حبيبي»، ثم كيف يامصطفى بك لا يغضب رامى عندما يعلم بمن يحب ثومة ويريد الارتباط بها؟! بل على العكس يكتب قائلا: «ولما أشوف حد يحبك يحلالى أجيب سيرتك وياه».. لم يجبنى مصطفى أمين، بل أحالنى لحوارى مع رامي... ورحت أقابله فى بيته بحدائق القبة، كانت شبكة التجاعيد ترسم ظلالها وأغوارها على وجهه، لكن حيويته الدافقة يدوب لابن الثلاثين.. ورغم شبابه الظاهر كان التهيب إزاء محدثى وفى حضرته هو موقفى الخفى والمعلن، وما بدد إطار الرهبة هو عودته أمامى إلى طفل هبط يلهو مع حفيده الذى أتى ليعيش فى البيت الكبير لحين عودة أمه الابنة إلهام أو ابنه محمد من بعثة الخارج حين أصر الحفيد فى لعبه على اعتلاء ظهر جده، وكانت لقطة العمر التى فزت بها لصحيفتى، بعدها بعفوية التجول المرتاح خرجنا معا إلى الشرفة نجلس وحدنا وبيننا كراسات فوق بعضها على الترابيزة، فاستأذنت أن أتصفحها لأجد خطوطها بالقلم الرصاص، الذى وجدت توفيق الحكيم يكتب به ويمسح ويبرى القلم، سطور رامى فيها مبعثرة كواجب تلميذ متعثر فى الإجابات، لكن كلماتها، وللعجب، ما نردده فى الصدور الحالمة، وما نصفق من ورائه بعدما تشدو به سيدة الغناء ومليكة قلب وعقل وقلم وإلهام شاعر الشباب. الذى نحتفل اليوم بالذكرى الثالثة والثلاثين لرحيله.
سألته.. من كان قد تجاوز وقتها الخامسة والستين عن سر شبابه المتدفق فأتت إجابته قهقهة بروشتة للمستقبل:
- أمارس رياضة المشى كل يوم ساعات.
وأين سيارتك؟
وعادت الضحكة المجلجلة تدوى على مشارف إجابته:
- منين أجيبها.. الستر ما خرجت به من الدنيا.
فعدت أسأله والإطار من حولنا وقتها مظاهر ثورة اجتماعية وصناعية واشتراكية وعمال ومصانع وأراض تنزع من أصحابها بدعوى أنهم إقطاعيون:
لماذا لم يتطور شعرك مع الحركة الثورية فلا نسمعك تتغزل فى عاملة مصنع ولا دخان مدخنة متأججة بنار العمل؟!
- الشعر تعبير عما يشعر به الإنسان، والإنسان يستجيب فقط لما تنفعل به النفس، ومن أجل ذلك سماه العرب شعرا لأنهم شعروا به، كل من كتب الشعر يتحدث عن بيئته، ولا يمكن لشاعر مثلا أن يتكلم عن الغزل ولا يحب، أبو فراس الحمدانى تكلم فى أبياته عن الشجاعة فى عالم السيف والنزال لأنه كان محاربا، وأنا هنا فى الرد على سؤالك لم أتخصص فى الكتابة عن المصانع والمداخن، فلا أقدر أن أقول فيها أشعارا، لقد تخصص فكرى وقلمى فقط فى الحب.
لكنك كتبت القصيدة السياسية؟
- قصيدة وحيدة وأنا تلميذ ثانوى حول الخناقة بين وزير المعارف المصرى وقتها سعد زغلول ومستشار وزارة المعارف الإنجليزى دانلوب قلت فيها:
أيا دنلوب كف عن العناد.. قد هاجت وقد ماجت بلادي
قد سئمت بسيرك كل نفس.. أتحسب أن مصر فى رقاد
كم من الحب غنت لك أم كلثوم؟
- أكثر من 143 أغنية بدءا من الصب تفضحه عيونه من ألحان الشيخ أبو العلا محمد عام1915 وكنت لم أقابلها بعد.
الحب.. كيف تشعر به؟
- لا أصفه إلا بعد أن أجربه وألاقيه ويوجعنى ويحرق فؤادي.
متى وكيف ولماذا وهل؟
- لحظة أن يستجيب قلبى للحب أترجم أحاسيسه بالشعر.
كيف تستمع لكلماتك تشدو بها سيدة الغناء؟!
- أحتشد لسماعها كما أستقبل عيدا من أعياد الدهر، أحب أن أقضى وقتا قبل سماعها وأنا وحدي، لينمحى كل جرس وهمس من أذنى عدا صوتها المنتظر، ثم أدخل قبل رفع الستار بقليل، حتى إذا رفع الستار ملأت عينى منها فى لحظات، ثم تبدأ الآلات تعزف، فأزن مبلغ شوقها إلى استماع النغم، ولست أعرف أحدا ممن يغنون يطرب لسماع أول انبجاس الأوتار بالنغم كهذه الشادية، فإنها إذا سمعت رجع الأنغام أصابتها رعشة، ثم تدب بقدميها دبا خفيفا كأنها تنقر بهما على أوتار خفية، ثم تبلع ريقها وترمى بعينيها نظرة سابحة إلى آفاق بعيدة.. حتى إذا خفت النغم، انساب صوتها لينا رقيقا، فكأن الأوتار الصادحة لم تكف عن العزف ثم ينبثق صوتها كما تنبثق الزهرة تحت الندي، ويخرج من فمها كما ينبعث النور من المشرق.. وتدور بقدميها تحت ثوبها الفضفاض، كأنها تدعك عود الريحان حتى يشتد أريجه. فإذا بلغت القمة فى الغناء، سبحت بنظراتها إلي... لاشيء، ونسيت أنها تغنى للناس، وكأنها وحيدة مع الشفق فى برج فسيح تغرد مع الأطيار.
وكان على لسانى سؤالي: هل الصب تفضحه عيونه؟ لكنى اكتفيت ببلاغة صمته، ربما لذكرى داعبت خياله عندما غنت أم كلثوم له وحده فى مركب برأس البر، أو عندما قدم لها أغنية «جددت حبك ليه» خلال استراحة بين وصلتين فقالت له بعد قراءتها: إيدك يارامي، ولما رفض أن يعطيها لها جذبتها وقبلتها قائلة: إننى أقبل اليد التى كتبت هذا الكلام.
هل لديك شيطان للشعر يزورك كلما تراءى له؟
- حالة غير طبيعية تلبسنى عندما أسكن لكتابة الشعر، لكنى أبدا لا أنسبها لشيطان، بل إلى ملاك حارس يوحى إلى بفقرات وأبيات فيما يشبه البرق الخاطف أو الخطرات، ولو كانت تلك الخطرات لا تومض كالشهب وتختفى على الفور لقبضت عليها وزرعتها على طرف قلمي. ذات مرة سألنى ابني: مالك يابابا؟! وقتها كنت سارحا فيما يشبه الغيبوبة، ومرة قالت لى أمى حزينة وهى تشاهدنى أتمرغ على أرضية الغرفة دون وعى مني: يارب ياابنى يتوب عليك من الشعر وسنينه! وحبست لسانى حتى لا أنقل له قول أمى أنا نقلا عن جاره لبيتهم وهو شاب من أنه كان عندما يبحث عن مكان هادئ مظلم كرحم الأم ليستقبل وحى أشعاره لا يجد سوى تحت السرير ليمكث الساعات وفى تاريخه أنه كان وهو طالب يتسلل إلى مناحات العزاء ليسمع نظم المعددين على الراحلين ويبكي، وكان يهيم وراء البائعين المتغنين فى الشوارع والحارات، لدرجة أنه قد مشى يوما وراء عربة جميز من بيته فى حى السيدة لبولاق.
لحظة الإلهام؟
- لا أكتب فى النور المباشر ولا أنظم إلا إذا سمعت الموسيقى أو الغناء، فإذا ما نظمت أترنم بالأبيات، وإذا قمت بتأليف أغنية أظل أتقلب شمالا ويمينا أرددها حتى أنتهى منها، وفى ذاك ربما غرابة، لكنها الغرابة التى كانت لدى بعض الشعرا، فمثلا الشاعر الإنجليزى كيتس كان يطلى فمه من الداخل بالفلفل الحامى وهو يكتب قصائده، والشاعر دانزيو كان يهرع إلى لبس الحرير ليتمرغ فى نعومته إذا ما أتاه ملاك الشعر.
وأين يأتيك؟
- أفضل قصائدى نظمتها فى الترمواي، أو على شط النيل، لأنى ساعتها أغنيها بصوت عال ولا أريد أن ينصت لى أى أحد، وعجل الترمواى والهيصة يبددان صوتي، وعلى شط النيل الهدوء الذى ليس فيه مخلوق غيرى لخجلى من أن يرانى أحدهم أغني.. خلوتى فى غمرة الناس وأنا أشعر أننى لست معهم وإن كنت بينهم، وخلوتى مع نفسى وأنا بين أحضان الطبيعة.
سألته عن لقائه بشوقى وحافظ إبراهيم وناجى ثلاثية عباقرة شعر الفصحى فوجدته قد لاقى أمير الشعراء مرات ومرات، فى باريس عام1922, وفى عام1924 التقيا على طريق الغناء فقدم شوقى «بلبل حيران» و«فى الليل لما خلي» وقدم رامى «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» و«أخذت صوتك من روحي»، والتقيا فى المسرح إذ قدم شوقى «مجنون ليلى» ورامى «غرام الشعراء»، ومثلت المسرحيتين فاطمة رشدي، وكان رامى يؤثر من قصائد شاعر النيل حافظ إبراهيم ولا تلم كفى إذ السيف نبا.
وقال لى رامى فى لقاء عمرى معه إنه لم يقدم على الزواج إلا بعد أن استشار شوقى الذى شجعه بقوله «تزوج لترى خلق الله فى خلقك، وكان يعنى أن أصبح أبا وأرى نفسى فى أولادى».
وبعد وفاة الشاعر إبراهيم ناجى قام رامى يجمع قصاصاته وأوراقه المبعثرة ليخرج منها ديوانا له انتقى منه لأم كلثوم قصيدة «الأطلال» ليلحنها السنباطى.
وعدت بهيافة شطط السؤال: يقال إن أم كلثوم تشرب الطحينة حتى تجلو حنجرتها قبل الغناء؟
فأجابنى: تعودت ثومة طلب فنجان القهوة الذى تتركه يبرد ثم تشربه قبل الغناء مباشرة باردا كالماء، فهل هذا هو السر فى حلاوة صوتها.. الله أعلم؟!!
شاعر الشباب الذى غزاه المشيب والوهن وجفت ينابيع إلهامه بعد نكسة1967, وبعدما طار حمام البرج الذى كان يربيه فى منزله عندما أطلقه فى جولة ساعة العصارى.. طار ولم يعد إلى برجه.. وأتت الكارثة الكبرى برحيل ملهمة القصائد والأغانى التى كان يهديها روائعه ويكتفى فقط بسماعها منها... عاش بعد رحيل أم كلثوم ست سنوات لم يكن راغبا فى أن يعيشها:
عشت أسمعها تشدو فتطربنى واليوم أسمعها فأبكى وأبكيها.
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.