عنوان اخترته لمقال قبل عامين عندما لاحظت غياب البعد الثقافي في برامج مرشحي الرئاسة آنذاك، اليوم وبعد ما مر بمصر من أحداث استهدفت الوطن، كان تغييب الوعي المصري فيها السلاح وكانت الثقافة المصرية الهدف والوسيلة لتغيير مسار أمة ورسم ملامح مستقبل لا يخص أبناءها، أجدني مضطرة لتكرار نفس العنوان. ففيما عرضت في مقالي الأول لهموم المثقفين المصريين بأمل أن تأخذ حيزا من اهتمام رئيس أوشك أن يتبوأ مقعد الرئاسة آنذاك، أظن أن الأجدر بنا اليوم بعد أزمات متعاقبة، تكررت خلالها الإشارة للبعد الثقافي، علي المستوي الشعبي وعلي لسان مرشحيّ الرئاسة، أن نقلب في صفحات ملف الثقافة المصرية ليأخذ مكانا مناسبا علي سطح مكتب رئيس يتأهب لتسلم مهام منصبه. فمن المؤسف أن الثقافة التي تعد مرآة كاشفة لواقع أي مجتمع ومشكلاته الظاهرة واللامرئية، وتداعياتها المستقبلية، كانت ولا تزال أشبه بحلية مسجونة في أدراج شكمجية، نخرجها في المناسبات لنتزين بها ثم ما نلبث أن نعيدها لمحبسها ولا نتذكرها إلا في المناسبات أو الملمات!!.. ولأن مجتمعنا المصري تعرض علي مدار عقود طويلة و خلال السنوات الثلاث الماضية تحديدا لهزات عنيفة، أدت لحالة سيولة هددت منظومة القيم والأفكار التي استقرت في الوجدان المصري، وطرحت قضايا خلافية فيما استجد من مفاهيم، ولأن اللحظة التي نمر بها لن يمكن تجاوزها إلا بالمواجهة وإزالة لبس علق برؤى ومصطلحات (من قبيل الحريات والعلاقة مع السلطة وحرية التعبير والتعددية الفكرية وحرمة الجسد والروح والكرامة الإنسانية)، أظن أننا لم نعد نملك رفاهية التعامل مع الثقافة وإشكالياتها المرتبطة بالتعليم والإعلام والخطاب الديني بشكل موسمي. ورغم تعدد تعريفات الثقافة، إلا أنه في سياق التعامل مع الثقافة باعتبارها مقدمة لدراسة فكر وسلوكيات ورؤية أي شعب عن حاضره ومستقبله، يمكننا أن نركن لأساسيات اتفق عليها معظم الباحثين، تتلخص في تعريف الثقافة بأنها الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والمعتقد والفن والأخلاق والقانون والعادات، وأي قدرات ومهارات يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع. بمعني أن الثقافة حصيلة المعارف والقيم والعادات والسلوكيات والقوانين والأعراف والتقاليد والمدركات الذهنية والحسية والموروثات التاريخية واللغوية والبيئية التي تصوغ فكر الإنسان وقيمه الاجتماعية وتحدد سلوكياته. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الصيغ الثقافية المحددة لشخصية أي أمة ليست جامدة، إذ قد تتأثر سلبا أو إيجابا بعوامل خارجية تؤدي بدورها لتحولات في سمات المجتمع. ففي دراسة أصدرها مركز دعم القرار بمجلس الوزراء قبيل 2011 عن مشكلات المجتمع المصري والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرضت لها مصر فأحدثت انقلاباً في منظومة القيم الاجتماعية الإيجابية التي صاغت سلوك المصريين وصبغت الشخصية المصرية علي مر العصور، رصد الباحثون تسيدا لمجموعة قيم شوهت الشخصية المصرية، منها غياب التنظيم والالتزام، وضعف الشعور بالانتماء للوطن وغلبة الاستهلاك الترفيهي والسلوكيات الهابطة، وانتشار الفن الرخيص واللغة الهابطة وتراجع الفن الرفيع، وشيوع التفكير الخرافي والتطرف العقائدي. علي صعيد مواز فإن تأمل واقع المجتمع المصري خلال الأعوام الثلاثة الماضية يكشف ظواهر خطيرة لعل أهمها غياب أو اختزال التعريفات الدالة والمحددة لمفاهيم محورية ولتقاطعاتها (مثل الخيط الرفيع بين الحرية الفردية والمسئولية الاجتماعية ومنظومة الدولة)، وبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد وإذكاء صراع الأجيال، الأمر الذي أدي لالتباس في وعي المواطن العادي تجاه ما يدور علي الأرض وتباين ردود الفعل تجاه الحدث الواحد، وبالتالي ضبابية المواقف سواء علي المستوي الفردي أو العام والانفصال بين النُخب و الشارع. المدهش في الأمر أنه ما من دراسة وقعت بين يدي قام بها باحثون في علم الاجتماع أو الإعلام أو التربية إلا أشارت بوضوح لتدني مستوى التعليم والمؤسسات التربوية وأداء وسائل الإعلام وغياب دور المؤسسات الدينية، كأسباب مباشرة لتسطيح الثقافة وترسيخ قيم مغايرة عن تلك التي استقر عليها المجتمع المصري، والذي رجحت أكثر من دراسة أن تخلفه أو تقدمه صناعة محلية بحتة.. من كل ما سبق يتضح أن كثيرا من العوامل التي خلقت فضاءً مواتياً لظهور أزمات تهدد المجتمع وتقف حجر عثرة في طريق استعادة وجه مصر الحقيقي، تقبع في أوراق تلك الملفات الثقافية. والسؤال الآن ما هي السياسات الثقافية والإعلامية والتربوية التي سنتبناها منذ اللحظة لتجاوز هذه الإشكاليات؟! وما هي السبل والآليات الثقافية الواقعية القابلة للتنفيذ كي يتعافى المجتمع المصري ويستعيد قوته الذاتية؟! ملفات حان الوقت أن يُنفض عنها التراب لتحتل موقعها علي مكتب الرئيس ومعاونيه... لمزيد من مقالات سناء صليحة