وسط عالم تتخاطفه الأحداث من كل جانب جاءت الحوارات , محاولة لترتيب أفكارنا والدوران فى فلك وعى جديد ,لعلنا نصل الى القدرة على اعادة التفكير فى الاسئلة المطروحة على الساحة العالمية . فالحوارات التى نقدمها حول المستقبل بمثابة حفر معرفى فى أذهان النخبة العالمية الذين قبلوا بشجاعة تحدى الاجابة عن أسئلة محورية وشاملة حول الموضوعات الاكثر أهمية وحيوية على الساحة العالمية المعاصرة وارتداداتها على المحيط المصرى والعربى , ونتوقف عمدا عند محطات فكرية ذات دلالة فى السياق التاريخى والحضارى منها التجربة الديمقراطية... ونتاجات الحداثة... وحوار الحضارات والتعددية الثقافية فى مواجهة العولمة.... ولا يمكننا أن نغفل هذه الثلاثية التى تثير جدلا صعودا وهبوطا ,كرا وفرا ,وهى الدين بالمعنى العام ,والعلمانية ,والاسلام السياسى بوجه خاص . فجاءت حوارات المستقبل محاولة لقراءة هذا الوضع المتفجر بالاسئلة المتشابكة.باختصار هى قراءات متأنية فى زمن متعجل . فى أواخر الستينيات من القرن العشرين خطت قدما الشاب على أومليل خطواتها الأولى على أرض باريس , والتى كانت آنذاك تردد مقولة يونانية قديمة قالها هرقليطس (أنت لا تنزل النهر مرتين) لأن ثمة مياه جديدة تتدفق , باريس آنذاك كانت تنفتح على هذه الكوكبة من مفكرى العصرالكبار , وتتطلع الى آلتوسير ودولوز وشتراوس وفوكو ودريدا ولاكان ,ورولان بارت,وبغاتييه ,ومع هؤلاء نزل الشاب المغربى على أومليل مياها تموج باجتياح لكل التقاليد ,والتصورات الفكرية الموروثة ,والتقليدية ,باريس «مدينة الجن والملائكة» بالنسبة لهذا المغربى كانت تحطم أوثان الماضى ,وسطوته الفكرية ,وكان أومليل يسأل سؤاله الخاص ..كيف له وهو المغربى العربى المسلم أن يحطم أوثانه الفكرية , وأن يدع لهذا المناخ المثير للدهشة والاعجاب أن تطلع شمسه على عتمة الماضى فتبددها وتجعله يفكر فى أطروحته عن ابن خلدون , ولا يدعنا أومليل نسأل كثيرا اذ يبادر بالاجابة عن تأثره بالكلمات والأشياء «لفوكو» ومن هذا المنطلق وعلى نفس الدرب يستدعى أومليل الماضى ليصفى حسابه مع التصورات , والتقاليد الفكرية البالية , التى اعتبرت التراث وفقا لتعبيره مادة حاويةأو «مغارة لكنوز على بابا » يمكن التعويل عليها كلما أفلس الواقع هذا الافلاس الذى أسقط من الحسبان قيم المبادرة والحوار والابداع الذى يتيحه المناخ الديمقراطى ,ان العودة المتكررة الى التراث جعلت الديمقراطية حبيسة أدراج التاريخ السردى لوقائع السلف الصالح دونما وضع أسس ديمقراطية تستلهم الحوار وثقافة الاختلاف لتسمح للخلف أن يكون صالحا للتعايش مع عالمه وقادرا على التطلع الى المستقبل ,حول الديمقراطية يدور حوارنا مع المفكر المغربى أولا ,والمثقف العالمى ثانيا ثم الدبلوماسى الذى جعلته بلاده سفيرا فى بلدين عظيمين يشتهران بمنتجهما الثقافى اما كتابة أو طباعة ونشرا هما (مصر ولبنان). من مؤلفاته ذائعة الصيت «فى شرعية الاختلاف» ,سؤال الثقافة ,السلطة الثقافية والسلطة السياسية , مواقف الفكر العربى من التغيرات الدولية :الديمقراطية والعولمة,الاصلاحية العربية والدولة الوطنية ,فى التراث والتجاوز , الخطاب التاريخى دراسة لمنهجية ابن خلدون,أفكار مهاجرة. - منذ أن طرحت فكرة المساواة بين البشر , والديمقراطية تحتضن هذه الفكرة وتنميها ,غير أن التجارب الديمقراطية عبر التاريخ لم يرحب بها الفلاسفة فى العصر اليونانى القديم لانها تساوى بين عامة الناس وبين النخبة ..ثمة وجهة نظر يونانية قديمة ترى أن الديمقراطية حماقة معترف بها.. كيف تقرأ هذه العبارة؟ ما دمت قد ذكرت اليونان، فإنى سأقول لك شيئا قد يبدو مستغربا، وهو أن المثقفين منذ اليونان يحبون الديمقراطية حين تكون غائبة ويعيشون تحت نظام استبدادي. هم يستعملون خطاب الدعوة إلى الديمقراطية سلاحا ضد هذا النظام الاستبدادى الذى يحاصرهم. لكن، ما إن تجرى انتخابات عادية حتى يغير كثير من المثقفين رأيهم، فيصبحون يتحدثون عن «الغوغاء» بدل الشعب، ويندّدون بالشعبوية. ذلك أن الغالبية العظمى الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ليسوا متشبعين بالثقافة الديمقراطية، وبأفكار وقيم الحداثة مثل المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة فى المواطنة بحيث تكون المواطنة هى الهوية الجامعة فوق الهويات الدينية والطائفية والعشائرية، وليسوا على قناعة تامة بفصل السياسة عن الدين وبالدولة المدنية وبوضعية الدساتير والقوانين. وهذه كلها قناعات المثقفين وليست بالضرورة قناعات غالبية الشعب. لم يكن المثقفون منذ فلاسفة اليونان وأدبائهم يحبون الديمقراطية، بحجة أنها تغرق النخبة – والمثقفون نخبة – فى بحر الشعب. وهذا أيضا حال العديد من المثقفين فى أوروبا حين اعتمد الحق فى الاقتراع العام، صوت واحد لكل مواطن بالتساوي. إن الانتقادات التى أصبحنا نرى مثقفينا يوجهونها للشعب والشعبوية قديمة منذ اليونان. فأفلاطون وأرسطو نقدها قاما بنقدا لاذعا لأسباب منها أن الشعب قابل للتغرير به واللعب على عواطفه، مندفع لإحداث الفتنة والفوضى حين ينقلب زمامه. والشعب يسهل التأثير عليه وتجييشه فيصبح مَطيّة لصعود طغاة باسم الديمقراطية. هكذا حصل فى اليونان القديمة وهذا ما حصل حديثا حين صعدت أنظمة استبدادية أو نازية إلى الحكم عن طريق صناديق اقتراع ديمقراطي. كيف يمكن أن نفهم هذه الديمقراطية التى يمكن أن توحد فيخرج الجميع على قدم المساواة ينادون باهداف واحدة مرددين هتاف «الشعب يريد» ثم هى نفسها التى تفرق اذ يشعر كل واحد بذاته كفرد مستقل , ما بين الوحدة والفرقة كيف نفهم الديمقراطية ؟ لقد أطلقت الجماهير الثائرة فى الشوارع والميادين العربية الشعار السحري: «الشعب يريد!». كان الشعب واحدا موحدا آنذاك، وحّدَه قمع أنظمة استبدادية فخرج صفًا واحدًا يتصدّى لها. لكن، ما إن سقطت هذه الأنظمة حتى انقسم هذا الشعب الذى توحد فى لحظة استثنائية إلى تيارات وفئات واتجاهات. إن اتحاد الشعب كتلة واحدة هو حالة استثنائية، حين يكون أمام خطر مشترك أو عدو مشترك، مثلا أثناء مواجهة الاستعمار أو فى مواجهة استبداد متسلط على الجميع. أما الحالة العادية فهى أن المجتمع متعدد، ويظل النظام الديمقراطى هو أفضل نظام لتدبير التعدد. فى كتابكم «فى شرعية الاختلاف» كان سؤالكم الأساسى ..كيف نبنى ديمقراطية وليس لدينا ثقافة الاختلاف التى تعد اساسا للحوار ..نراكم تتجهون نحوعمق الديمقراطية، التى تأبى أن يكون الاختلاف تجزئة أو تفتيتا بل تأكيد لممارسات وتقاليد تؤكد الحق فى الاختلاف..وفقا لهذه الرؤية هل الديمقراطية يمكنها اصلاح ما ساد من نظام أبوي، وكيف تتحقق الديمقراطية فى ظل الصراعات الطائفية والمذهبية والنظام القبلى فى العالم العربي؟ الذى نلاحظه هو أن الثورات العربية التى بدأت بإطلاق مطالب الحرية والعدالة والكرامة والدولة المدنية، انتهت فى بعض البلدان إلى صعود الطائفية والعشائرية. والسبب هو أن الثورات تولّد مجتمعا متقدما حين يكون هذا المجتمع مهيأ لذلك. فهناك ضعف فى بلداننا للقاعدة الاجتماعية التى من شأنها أن تسند قيم الديمقراطية والحرية والعدالة والدولة المدنية. لذلك حين انهارت قبضة النظام الاستبدادى لم يكن البديل فى عدد من هذه البلدان نظاما ديمقراطيا مدنيا، بل الذى حصل هو ارتداد إلى هياكل المجتمع التقليدي، الدينية والطائفية والعشائرية. إن الديمقراطية هى نظام يتجاوز هذه الهياكل العتيقة، لأن أساسها هو الفرد المواطن، وليس الطائفة أو القبيلة. والذى يجعل الليبرالية «سيئة السمعة» عندنا كما تقول هو أن الخطاب الليبرالى عندنا فى العقود الأخيرة هو صدى للعودة القوية لايديولوجيا اقتصاد السوق، وضغط المنظمات المالية الدولية على الدول النامية لتقوم بما سُمى إعادة الهيكلة، أى فتح الأسواق الداخلية وتقليص الضرائب وتقليص الأجور والرواتب والتسريح السهل للعمال تحت اسم «مرونة العمل»، وتفويت القطاع الخاص لأصحاب النفوذ والمحاسيب (الخوصصة أو الخصخصة). والملاحظ أن الذين تحمسوا لليبرالية اقتصاد السوق فى بلداننا العربية لم يأخذوا من الحريات الليبرالية سوى حرية واحدة: وهى حرية المبادرة الاقتصادية لرجال الأعمال، فى حين أن الليبرالية حريات متكاملة، كحرية الرأى والعقيدة والصحافة. لقد طرحتم أيضا فى كتابكم «الاصلاحية العربية والدولة الوطنية » أن فكر الاصلاح كشف عن فشل مزدوج للفكر العربى ,فشل فى العودة الى مجد الأجداد ,وفشل فى مجاراة التقدم الغربى , وترون أن المفكرين العرب المحدثين قد أرجعوا هذا الفشل للاستبداد ,لكنهم فى نهاية الأمر انقسموا الى فريقين الأول سلفى النزعة ودعا الى الشورى والثانى ليبرالى او علمانى ان جاز التعبير دعا الى الدستور,وانحصرت المسألة الفكرية فيما هو سياسي..اذا كنتم تحدثتم عن الماضى فماذا عن الحاضر والمستقبل.. فى ضوء ما حدث فى دول الربيع العربى خاصة أن هناك من يشكك فى قدرة العقل العربى الراهن على إنتاج ديمقراطية تصمد وتستمر؟ لا أحب عبارة «العقل العربي»، فرغم أنها أصبحت رائجة فهى لا تعنى شيئا. بل هى توحى بأن هناك عقليات عرقية، بعضها ينتج الحضارة والحداثة وبعضها عاجز إلى الأبد. الاحرى أن نتحدث عن الثقافة، والثقافات قابلة للإصلاح والتغيير. علينا إذن أن ننظر فى القيم التى تحملها هذه الثقافة أو تلك، هل هى منتجة للعمل الخلاق، قادرة على التكيف مع متغيرات عالم اليوم، قابلة لقيم الحداثة. هذه القيم تتكوّن بإصلاح جذرى لنظام التربية والتعليم، أى التربية على المبادرة، والانفتاح للأخذ والعطاء مع الآخر، والمنافسة فى عالم اليوم، وهذا كله لا يمكن تحقيقه إذا ظللنا نداول خطابا عن الهوية باعتبارها شيئا ثابتا قد تكوّن نهائيا فى الماضي، وأنه كالجوهرة التى يعلوها غبار الزمان وما علينا سوى أن ننفض عنها غبار الزمان ليعود لها البريق واللمعان. الهويات تتكون وتتطور فى الزمان والتاريخ. ولا بد وأن تكون قيمها قابلة للتداول فى عالم اليوم. من هنا نفهم حقيقة ما يسمى حوار الثقافات الذى كثر عنه الحديث. إن حوار الثقافات هو بمثابة عرض قيم كل ثقافة فى معرض تبادل القيم الثقافية فى العالم. فلكى تكون قيم أية ثقافة قابلة للتبادل، ينبغى أن يجد فيها الطرف الآخر قيمة تبادلية. فى حوار الثقافات انت تحاول أن تثبت للآخر قيمة ثقافتك. ولن تنجح فى ذلك إذا كانت ثقافتك عزلاء، ضعيفة، غير قابلة للتبادل، بل ينبغى أن تستند ثقافتك إلى قوة اقتصادية وحضور سياسى وازن على مسرح العالم. وهذا للأسف ليس متوفرا الآن لثقافتنا العربية. لا يكفى أن نفتخر بعراقة حضارتنا – وهى فعلا كذلك – بل أن نثبت فعالية قيمها وقيمتها التبادلية فى سوق القيم المعاصرة. فالاكتفاء بتعداد مزايا ماض مشرف لا يقنع سوى أصحابه. كانت رؤيتكم فى «الاصلاحية العربية والدولة الوطنية » أن المسالة السياسية برمتها واقعة بين دعوتين الأولى دعوة الى سلطة فردية كانجاز لحظى وعملى للتقدم من خلال صورة المستبد العادل , والأخرى دعوة تحتاج الى وقت وتدرج فى العمل لتجعلنا فى طور سياسى حداثى ,أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الدستورية والتعددية الحزبية والبرلمانية ..هنا نسأل ما مدى ارتباط الديمقراطية بالحداثة .. هل يمكن للديمقراطة فى اطار تبنى نمط ثقافى مختلف بناء لدولة حداثية؟ الديمقراطية حداثة سياسية، شريطة أن يكون المجتمع متشبعا بالثقافة الديمقراطية التى تعنى القبول بالتعددية – لأن الديمقراطية هى أفضل نظام لتدبير التعددية – كما تعنى مرجعية حقوق الإنسان، والمساواة فى الفرص بين الرجال والنساء. إذا لم تكن الديمقراطية مستندة على مجتمع مشبع بثقافتها وقيمها واختزلت فى عملية الانتخاب وأن هذا هو اختيار الشعب فقد يكون هذا الشعب غير متشبع بالثقافة الديمقراطية فيأتى عبر صناديق انتخاب ديمقراطى بنظام حكم فردى استبدادى أو بأغلبية مستبدة، ولو كانت انتخابات شفافة ونزيهة. كيف تحقق الديمقراطية العدالة – بينما العدالة - هى مصلحة الأقوى ، والأقوى هنا قد تكون جماعات الضغط او تجمعات المصالح؟ تقوم الديمقراطية على مبدأ المساواة السياسية. لكن هذه المساواة تظل شكلية إذا لم تكن هناك عدالة فى توزيع الثروة. وهذا هو مأخذ الاشتراكيين. لكن أمام انتصار اقتصاد السوق، ودعوى أولوية الفعالية الاقتصادية لتعظيم الانتاج والقدرة على المنافسة فى الأسواق العالمية فى عالم العولمة، أصبحت الهوة تضيق بين النموذجين الاشتراكى والرأسمالى على مستوى الاختيارات الاقتصادية. لكن تبين أن اقتصاد السوق إذا ترك لديناميته فهو لا ينتج مجتمعا ديمقراطيا. والديمقراطية هى حكم الأغلبية. لكن مع ضمان حقوق المعارضة وإمكانية التداول على السلطة بين الأغلبية والأقلية. فلا أغلبية ولا أقلية دائمة. فى قراءتكم للتراث حاولتم البحث عن الأصول الشرعية لممارسة حق الاختلاف وأن التراث ليس حكرا على امتلاك الحقيقة المطلقة وانكار الحوار والاختلافات .. هل كنتم تبحثون عن حل لمأزق الصراع الاثنى والعرقى فى العالم العربى ..وما الحال فى المجتمعات التى فيها أقليات دائمة، دينية وطائفية واثنية؟ حيث تكون الأغلبية (الدينية أو الطائفية أو الاثنية) أغلبية دائمة؟ هنا النظام العلمانى أو الدولة المدنية هى الحل، بحيث تكون المواطنة هى الهوية الجامعة وما عداها من هويات خاصة دينية أو طائفية يضمن لها حق الوجود، لكن المجال العام (مجال الدولة ومؤسساتها) ليس دينيا ولا طائفيا ولا إثنيا. فالدولة العلمانية أو المدنية لا دين لها ولا طائفة، لكنها تضمن حق كل الطوائف والأديان والعقائد فى وجودها وممارسة شعائرها. وأظن أن هذا هو الحل بالنسبة للمجتمعات التى فيها أقليات دائمة، حتى لا يصار إلى استبداد الأغلبية (أى الدين أو الطائفة الأكثر عددًا). أخر الأطروحات عن الديمقراطية هو نمط الديمقراطية التداولية أو التشاورية أو التشاركية أو التوافقية.. ما رأيكم فى هذا النمط هل يصلح لنا؟ ما يسمى بالديمقراطية التوافقية أى المحاصصة فى المناصب، فقد اثبت فشله إذ إن أى قرار (فى مجلس الحكومة مثلا) لا يؤخذ إلا بإجماع مكونات الحكومة المشكلة أساسا بالمحاصصة بين الطوائف، بحيث يكون لوزراء أية طائفة حق النقض، فلا قرار إلا بالإجماع، وليس بالتصويت بالأغلبية. اضف إلى ذلك أن المناصب فى الإدارة والأمن والجيش تكون هى أيضا بالمحاصصة، والتى هى ايضا معيار التعيين والترقيات فى الادارة. معنى هذا استحالة قيام دولة مدنية ديمقراطية حقيقية مع نظام المحاصصة الطائفية، ولا حل إلا بقيام دولة مدنية تكون فيها الهوية الوطنية هى الهوية الجامعة، والمواطنون متساوون فى المواطنة، والمعيار هو الجدارة والكفاءة وليس التعويل على الانتماء الطائفي. فى «التراث والتجاوز» تحدثتم عن تلك الرؤية التى تقول بأن ابن رشد وابن خلدون أحدثا قطيعة معرفية وتردون بأنها ليست قطيعة بقدر ما هى تجاوز من خلال قراءة عقلية للتراث اليونانى عن ابن رشد واستخدام لمنهج الاسناد التاريخى عند ابن خلدون ..ترى ما هى قراءتكم بعد هذا المدى الزمنى البعيد لقطيعة من نوع أخر يدعيها فوكوياما بأن الديمقراطية الليبرالية هى نهاية التاريخ؟ فوكوياما قال إن اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية هما قمة التاريخ ونهايته. لقد سبقه آخرون أنهوا مسيرة التاريخ امثال هيجل وماركس. طبعا لا ينتهى تاريخ البشر إلا إذا انتهى البشر من على وجه الأرض. وهنا أحيلك إلى كتاب صدر أخيرا لاستاذ اقتصاد فرنسى هو طوما بيكوتى وعنوانه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» . وقد أثار هذا الكتاب نقاشا واسعا ولا يزال. موضوع الكتاب هو توزيع الثروة. وقد قام الباحث بدراسة معمقة لهذا التوزيع منذ القرن الثامن عشر وهو ما لم يقم به باحث قبله. فوجد أن معدل نمو الرأسمال (ايجار العقارات، أرباح الصناعة، ريع الممتلكات الموروثة...) نما فى القرن التاسع عشر بسرعة أعلى بكثير من نمو الأجور والرواتب. وقد حصل ارتفاع ما للأجور بعد الحرب العالمية الأولى إلى سبعينيات القرن الماضى ليعود معدل أرباح الرأسمال يتصاعد أعلى بكثير من الأجور. ويثبت الباحث تهافت تفاؤل الاقتصاديين الذين اعتبروا أن الرأسمالية بآليتها الذاتية لتوازن النمو، وبفضل المنافسة الشفافة، والتقدم التكنولوجي، كل هذا سوف يؤدى إلى تقليص التفاوت فى توزيع الثروة وسوف يعم الرخاء الجميع فى نهاية الامر. وهو يعتقد أن العكس تماما هو الحاصل: فبمجرد ما تتجاوز نسبة عائدات الرأسمال بكيفية مستمرة نسبة نمو الانتاج والأجور، فان الرأسمالية تنتج آليا تفاوتا يتفاقم، وذلك على حساب قيم الجدارة والكفاءة والاستحقاق، والتى على أساسها تقوم المجتمعات الديمقراطية. لقد عرف القرن العشرون احداثا كبرى (الحرب العالمية الأولي، والأزمة الاقتصادية الكبرى فى الثلاثينيات، والحرب العالمية الثانية) أدت إلى سياسيات جبائية وضوابط لرؤوس الأموال أفضت إلى كبح جماع الرأسمالية. لكن وتيرة تنامى رؤوس المال عادت إلى التصاعد، بسبب الهجمة المحافظة لسياسة تاتشر فى بريطانيا وريجان فى أمريكا، وسقوط المعسكر السوفيتي، والعولمة المالية وضغوط المؤسسات المالية الدولية على الدول النامية لإعادة الهيكلة الاقتصادية، كما تراكم بشكل هائل الرأسمال الآتى من الارث. وهكذا سقط التفاؤل باستقرار التوازن بين الثنائى رأس المال/العمل بسبب التحول الجذرى لطبيعة رأس المال، والذى تحوّل منذ القرن الثامن عشر من رأس مال ملكية الأراضى والرأسمال العقارى والرأسمال الصناعى والمالى فى القرن الحادى والعشرين. وقد أصبح مردود هذا الأخير عاليا بحيث أبطل دعوى القائلين بأن الثورة المعرفية ستأتى بنظام حكم الكفاءات (ميريتوكراسي). كما انتهى وهم الاعتقاد بأن تعميم التكوين المعرفى سوف يؤدى إلى تعزيز المجتمع الديمقراطي، ذلك أن أبناء الأغنياء هم أفضل تعليما وتكوينا. كيف يمكن للسياسى أن يتدخل سريعا لانقاذ هذا التفاوت الاقتصادى المروع وهل يمكن سد هذه الفجوة وتقليل التفاوت من خلال أفكار أو مبادرات سياسية أم أن الأمر كله فى يد المؤسسات الاقتصادية متعددة الجنسيات ورجال المال فى العالم ..أتحدث عن امكانية استعادة الدولة سيادتها فى مواجهة هذه المؤسسات الاقتصادية الضخمة والمرعبة ؟ ما دام التطور الذاتى الحالى للرأسمال سوف يؤدى حتما إلى تفاقم التفاوت، فإن الحل الذى يقترحه بيكوتى هو حل سياسي، أى إحداث ضريبة تصاعدية عالية على رؤوس المال. وهذا الحل عسير التطبيق. يبقى أن هذا الباحث (وهو فى الاربعينات من العمر) قد وضع بشكل غير مسبوق قضية التفاوت المتنامى فى توزيع الثروة ما دام رأس المال متروكًا لحاله ولديناميته الذاتية. ويبقى الرهان هو ابتكار حلول لتقليص التفاوت الصارخ فى توزيع الثروة على مستوى كل بلد وعلى مستوى العالم. هل يمكن اعتبار الليبرالية الجديدة قيدا جديدا على المبادرة الانسانية الحرة فى التفكير والابداع لتنحسر المسألة عند حدود المنفعة والأرباح ؟ أورد هذا الكلام لأن صدى الليبرالية الجديدة تردد عندنا كثيرا معتبرًا أن قضية العدالة الاجتماعية هى من مخلفات عصر الايديولوجيا. وكلاء هذه الليبرالية الجديدة عندنا هم رجال الأعمال ومن التفّ حولهم من أساتذة اقتصاد تحول العديد منهم إلى استشاريين لدى الشركات والمؤسسات المالية الدولية. إن وكلاء الليبرالية الجديدة عندنا ليبراليتهم بتراء. فالليبرالية حريات متكاملة، لكنهم يطلبون فقط حرية المبادرة الاقتصادية، فى حين أن الحريات الأخرى كحرية الرأي، خاصة فى القضايا السياسية، فهم يسكتون عنها، بل يطالبون بدولة قوية لتحفظ الأمن بدعوى ضرورة الاستقرار لازدهار الاقتصاد والأعمال. وهم مع المؤسسات المالية الدولية يطالبون بإصلاح القضاء، والذى يعنيهم أساسًا هو القضاء التجارى حتى يكون مختصا وسريعا لكيلا تطول قضاياهم التجارية فى المحاكم، أما القضاء المستقل النزيه فى قضايا الرأى والقضايا السياسية فلا يعنيهم. وأهمية الكتاب الذى تحدثنا عنه هو أنه بحث رصين موثق وشامل يبين مركزية قضية العدالة الاجتماعية كقاعدة للديمقراطية. ثمة ارتباط والتباس بين الديمقراطية والليبرالية نظريا وإجرائيا ..كيف ترونه؟ إذا أخذنا التعريف الأصلى بل اللفظى للديمقراطية فهى تعنى حكم الشعب. وقد تقرر أغلبية الشعب نظاما سياسيا منافيا للديمقراطية أى الديمقراطية التى يكون مرجعها الحريات الشخصية (حرية الرأى والعقيدة والحياة الشخصية... إلخ) والحريات العامة (حرية تنظيم ونشاط الأحزاب والنقابات والجمعيات وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي). المشكل عندنا أن الليبرالية سيئة السمعة، فقد ألصق بها الانحلال والجشع والاستغلال الطبقى والتبعية للخارج، بل البعض يجعلها توأما للامبريالية. وهذا كله عن جهل وأحكام مسبقة.