حرية الإبداع بكل أنواعه حق مقدس فى الدولة المدنية الحديثة. ولقد حرص الدستور المصرى الأخير - بوصفه تجسيدا لحلم الشعب المصرى الذى قام بثورة الثلاثين من يونيو - على احترام هذه الحرية وضمانها وحمايتها من الذين لم يتوقفوا عن انتهاكها مرة باسم الأخلاق، وثانية باسم السياسة، وثالثة باسم الدين. ولذلك تنص المادة (67) من الدستور على أن «حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك». وأرجو من القارئ ألا ينسى ما تنص عليه المادة من عبارة «حماية إبداعاتهم» ووصل معنى هذه الحماية بتأكيد ضرورة ألا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى». ولكن كل هذا قد تم نسيانه - فيما يبدو لى على الأقل - فى حالة الأديب كرم صابر الذى سبق أن نشر مجموعات قصصية عدة؛ ست مجموعات على وجه الدقة، وأربع روايات منها «الضريح» و«المتهم». ومرت كل هذه الأعمال بلا مشكلات. كاتب قصة أبدع ونشر كثيرا. وتحدث عن نتاجه الإبداعى غير واحد من النقاد، يمكن قراءة بعض مقالاتهم على الشبكة العنقودية للمعلومات (النت). ولكن ما إن أصدر الأديب كرم صابر مجموعته القصصية الأخيرة «أين الله» حتى أمسك بها بعض النزاعين إلى تكفير الناس، وإقحام الدين فيما لا ينبغى أن يقحم فيه، وتقدموا إلى النيابة بدعوى الإساءة إلى الدين وإساءة الأدب فى الحديث عن الذات الإلهية، ولم تسأل النيابة خبيرا فى الأدب، أو حتى اتحاد الكتاب، وإنما أحالت الأمر كله إلى المحكمة المختصة، وهى محكمة جنح ببا الجزئية فى بنى سويف، وكانت التهمة «استغلال الدين فى الترويج لأفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء أحد الأديان السماوية والطوائف المنتمية إليه والإضرار بالوحدة الوطنية». وقرنت النيابة الأوراق المحالة إلى القاضى المختص بشهادة أربعة شهود وهم الذين تقدموا للنيابة بالشكوى مما رأوه كفرا فى مجموعة قصصية. ونظرت المحكمة الاتهام الموجه من النيابة فى جلسة علنية بتاريخ 7/5/ 2013، وذلك لإصدار الحكم فى قضية النيابة العامة رقم 4128 لسنة 2012 (التاريخ الذى يعنى أن تحرك النيابة وإعدادها للقضية وتقديم الشكاوى لها حدث فى سنة حكم الرئيس السابق محمد مرسى، وتحت تأثير شيوع نزعات تديينية متطرفة، يسهل على أصحابها اتهام غيرهم بالخروج على الدين). أما الحكم فقد صدر غيابيا، وقضى بحبس الأديب صابر كرم بالسجن لمدة خمس سنوات وكفالة ألف جنيه لإيقاف تنفيذ العقوبة مؤقتا، وألزمته بالمصاريف الجنائية. واللافت للانتباه أن الحكم لم يشر إلى أن جسم الجريمة أو أداتها هو مجموعة قصصية، وإنما جعل التهمة على أساس أن الجانى «قام بتأليف وتوزيع كتاب بعنوان «أين الله» الذى تضمن الافتراء على الحق القدير...». وتحديد الجريمة بأنها «كتاب مؤلف» وليس مجموعة قصصية هو تحديد يتجاهل الطابع الخيالى للقصص؛ إذ إن الحقيقة أن الأبطال الذين نطقوا الجمل التى رددها الحكم مسيئة للدين الإسلامى العظيم إنما هى شخصيات خيالية، وليست شخصية المبدع الذى اختلقها خياله مفترضا إمكان وجودها فى الواقع. وهو أمر لا يشكل جريمة، ولا يعد قصدا لإهانة الدين من الكاتب الذى ليس هو شخصياته المتخيلة. هذا أمر. والأمر الثانى هو لماذا إساءة النية أصلا بكلام خيالى أصدرته شخصيات ضاقت بها الدنيا، وضغطت عليها هموم الحياة بما أفقدها توازنها. أما كان ينبغى أن يتروى الذين كَفَّروا الأديب المسكين أن يتذكروا سماحة الدين الإسلامى، وكراهة التعجل بتكفير المسلمين. وأين هؤلاء الذين يسارعون بتكفير غيرهم من الحديث النبوى الذى ينهى عن التعجل فى إلقاء تهمة التكفير، وصدق الرسول- صلى الله عليه وسلم- الذى قال: «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما». ولذلك نسب إلى الإمام مالك القول: «من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه، حُمِل أمره على الإيمان ولم يحمل على الكفر». وكان من الطبيعى أن يقوم الأديب كرم صابر بمعارضة الحكم، وأن يصل إلى محكمة المعارضة تقرير من مجمع البحوث الإسلامية، منطقة الوعظ ولجنة الفتوى ببنى سويف، ومعه تقرير من وكيل مطرانية بنى سويف. أما التقرير الأول فيرى أن ما ورد فى بعض الصفحات يدخل بعضه فى باب الكفر، وبعضه الآخر انحلال خلقى. ولا يخرج التقرير الثانى عن هذا المعنى مع اختلاف العبارات والأوصاف. واللافت للانتباه حقا أن المحكمة لم تأخذ رأى اتحاد الكتاب مع أنه الخبير الأحق بالافتاء فى هذا الأمر، ولم ترجع إلى وثيقة الأزهر الخاصة بالحريات، وبها قسم كامل عن حرية الإبداع. ولذلك كان من الطبيعى أن يصدر حكم محكمة ببا الجزئية بجلسة 11/3/ 2014 برفض المعارضة موضوعا، ومن ثم تأييد الحكم بحبس الأديب خمس سنوات. ولم يكن أمام الأديب كرم صابر سوى أن يستجير من القضاء بالقضاء، ويلجأ إلى محكمة الاستئناف. ولقد أتيح لى أن أقرأ حيثيات حكم المعارضة، وليس لى أن أقوم بالتعليق على حكم قضائى، ولكن من حقى أن أطرح عددا من الأسئلة تتعلق بحرية الإبداع التى يحميها الدستور، وينص عليها بشكل لا يختلف جذريا عن وثيقة الحريات الصادرة عن الأزهر. وأسئلتى هى: 1- هب أن شخصية خيالية دفعتها ملابسات خيالية تفوهت بما يبدو ظاهره مناقضا للدين الإسلامى السمح، أو حتى الدين المسيحى، وصدرت عنها عبارات مرفوضة بالمعنى المباشر أو غير المباشر، فهل يكفى هذا فى الحكم على مبدع هذه الشخصية، أى الكاتب الذى صاغها إبداعا، والذى يظل متميزا عن الشخصية الخيالية التى نحاسبها بمنطق الفن وقواعد النقد الأدبى؟. 2- لماذا نلجأ إلى القراءة الحرفية للأعمال الأدبية، ونحاسبها بمنطق الكتاب المؤلف فى موضوع من الموضوعات العلمية؟ ولماذا لا نلجأ إلى فهم الكلام الأدبى بوصفه كلاما مجازيا وليس حقائق حرفية؟. 3- لماذا يتبنى بعضنا- إلى اليوم- نوعا من الإسلام المتشدد، وننسى إسلامنا السمح، ونحسن الظن بالمبدعين بدل الإصرار على سوء الظن المسبق بهم؟. هل يتسق مثل هذا الحكم مع نصوص الدستور الحالى عن حماية حرية المبدع، بدل انتهاك هذه الحرية؟. 4- هل يتصور هؤلاء الذين سارعوا إلى تكفير الكاتب كرم صابر المحنة التى وضعوا الرجل وأسرته فيها؟ أنا لا أتصور أن الحكم الصادر بحق كرم واقع عليه وحده، لأنه حكم يتحول إلى سيف على رقاب كل المبدعين فى مصر. ولذلك أدعوهم جميعا إلى الوقوف إلى جانب واحد منهم فى محنته التى هى محنتنا جميعا. ولذلك أدعو اتحاد كتاب مصر وكل مبدعيها ومثقفيها إلى الوقوف صفا واحدا فى مواجهة تكفير مسلم، لا يزال يأمل- مثلنا- أن يعيش فى دولة مدنية حديثة، ينص دستورها على عدم توقيع «عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى». ارجعوا إلى الدستور يا سادة وتمسكوا بنصه وروحه ضد أعدائه من المتعصبين دينيا، أو المعادين للدولة المدنية الحديثة التى لا يمكن أن يسجن فيها كاتب مبدع، وتداركوا الأمر قبل أن نصبح أضحوكة فى العالم المتحضر. لمزيد من مقالات جابر عصفور