ولاشك أيضا فى أنكم أيتها السيدات وأيها السادة سمعتم وقرأتم الخبر، الذى أذاعته القنوات الفضائية ونشرته الصحف يوم الأربعاء الماضي، وجاء فيه أن جماعة نيجيرية تدعى «بوكو حرام» اختطفت مجموعة من الطالبات من مدرستهن وأعلنت أنها ستتعامل معهن باعتبارهن سبايا! وستقوم ببيعهن وتزويجهن بالقوة! وقد رأينا فى أخبار الأيام القليلة الماضية، أن هذه الجماعة لم تكتف بمن سبتهن فى الغزوة الأولي، فأعادت الكرة بعد يوم أو يومين، واختطفت مجموعة أخرى من الفتيات ليبلغ عدد المخطوفات مائتين وستا وسبعين فتاة، سيقوم المختطفون ببيعهن فى الأسواق! ماذا تكون هذه الجماعة القادمة من عصور الظلام والعبودية؟ وماذا تريد؟ وما الذى يعنيه هذا الاسم الغريب «بوكو حرام»؟ بوكو حرام جماعة إرهابية من جماعات الإسلام السياسي، أسسها شخص يدعى محمد يوسف عام ألفين واثنين، وأطلق عليها هذا الاسم المؤلف من كلمتين، الأولى بوكو، من الكلمة الإنجليزية «بوك» أى كتاب، والأخرى هى الكلمة العربية «حرام»، والمعنى المقصود هو فكر التحريم الذى تعتنقه هذه الجماعة التى ظهرت فى شمال غرب نيجيريا، حيث تعيش قبائل الهاوسا التى تدين بالإسلام وتتكلم لغة الهاوسا المؤلفة من اللهجات الإفريقية والمفردات العربية والانجليزية، لكن أعضاء هذه الجماعة يعرفون أنفسهم باللغة العربية فيقولون إنهم من «أهل السنة والدعوة والجهاد» ويلخصون برنامجهم فى الشعار الذى يرفعه الإخوان عندنا والسلفيون، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية فى نيجيريا، فى الشمال حيث يسود الإسلام، وفى الجنوب حيث تسود المسيحية التى يعلنون الحرب عليها وعلى الأوروبيين، الذين أدخلوها الى نيجيريا، وعلى الحضارة الغربية التى يعتبرونها «حضارة جاهلية» كل ما فيها حرام. الدولة الوطنية حرام، والنظم الديمقراطية حرام، والقطارات، والسيارات، والطائرات حرام، والفنادق، والمقاهي.. الحلال الوحيد فى الحضارة الغربية هو العنف وآلاته وأدواته، وقد سارت «باكو حرام» النيجيرية على خطى «جبهة الإنقاذ» الجزائرية، وجماعة «طالبان» الأفغانية، و«القاعدة» وغيرها من جماعات الاسلام السياسى التى تحمل السلاح ضد الدولة والمجتمع والحضارة الحديثة، والديانات الأخري، وحلال السنوات العشر التى مضت لم تكف تلك الجماعة عن قطع الطرق، ومهاجمة المبانى الحكومية، والسجون، ومحطات السكك الحديدية، والكنائس، والمدارس. وتقول الأخبار التى نشرتها الصحف، إن الأزهر الشريف استنكر قيام هذه الجماعة بخطف طالبات المدارس، وأعلن أن هذا التصرف لا يمت لتعاليم الإسلام السمحة والنبيلة بأية صلة، وهذا موقف يشكر عليه الأزهر، لكن الاستنكار وحده لا يكفي. الاستنكار لا يكفي، لأننا كما نرى وكما يرى العالم من حولنا، لسنا أمام جريمة مفردة أو مجرمين أفراد، بل نحن أمام تنظيمات دولية وأمام ثقافة فاسدة مدمرة منتشرة معدية تنتقل كما تنتقل الأوبئة من وسط الى وسط، ومن بلد الى بلد، ويشتد خطرها يوما بعد يوم، واذا كانت هذه الثقافة المريضة قد سمحت بقيام حزب فى العراق يقنن الاغتصاب، ويطالب بتزويج البنات وهن فى التاسعة، واذا كانت هذه الثقافة قد سمحت للإخوان والسلفيين وأمثالهم بالوصول الى السلطة فى مصر، وسمحت قبل ذلك بما حدث فى أفغانستان، والسودان، وبعد ذلك فى العراق، وليبيا، وتونس، وسوريا، فاستنكار الأزهر لا يكفى ولا يفيد، واذا كنت قد وقفت فى مقالاتى الأخيرة عند الذى يصيب النساء من هذا الوباء المزمن المستشرى، فالنساء لسن وحدهن الضحايا، وإنما نحن كلنا ضحاياه، لأن الذين يستعبدون النساء تحت شعار «تطبيق الشريعة» يحولون العبودية الى نظام دينى مقدس ويستعبدون الرجال تحت هذا الشعار، الذى نعرف كيف تترجمه جماعات الإسلام السياسي. تطبيق الشريعة عند هؤلاء هو تحويل الدولة الى مؤسسة كهنوتية يجلسون على قمتها، وينفردون بالسلطة فيها، ويكفرون من يخالفونهم من المسلمين وغير المسلمين، ويستعبدون النساء، وينتهكون حقوق الإنسان، ويصادرون حرية التفكير والتعبير. الى أى مرجع أو قاموس استندت هذه الجماعات الإرهابية فى ترجمتها لتطبيق الشريعة؟ الجواب بكل صراحة ووضوح، هو تراثنا القديم الذى استند له أبوالأعلى المودودي، وحسن البنا، وسيد قطب، وأمثالهم وخلفاؤهم، هذا التراث الذى تنكر فيه أصحابه لروح الإسلام وسماحته ومبادئه العقلانية، وقيمه الإنسانية، وانحازوا للطغاة فأعطوهم الحق فى الاستئثار بالسلطة المطلقة، واعتبروا المواطنين قطعانا ورعايا تؤمر وتنهى فتسمع وتطيع، ونظروا للمرأة هذه النظرة الحيوانية التى تجعلها مجرد جسد بلا عقل أو بنصف عقل، وقد قدمت فى بعض ما كتبته نماذج مما قاله هؤلاء فى المرأة، واستطيع أن أقدم نماذج أخرى كثيرة فيما قالوه فى المرأة، والسياسة، وفى الشعر والعلم، وفى الفن والفلسفة لنرى أننا أمام حركة إحياء لثقافة فاسدة متخلفة تترجم الإسلام ترجمة تشوهه وتسيء إليه، فعلينا أن نواجهها كلها دفعة واحدة بمراجعة شاملة نميز فيها بين مافيها من الحق وما فيها من الباطل. وهل يتفق مع الإسلام أن نعتبر نساءنا جنودا لإبليس كما ذكر الحكيم الترمذي؟ وهل صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر»، ولابد من امام بر أو فاجر، فإنه يريد السلطان الذى يجمع الناس.. يريد لا تخرجوا عليه، ولا تشقوا العصا، ولا تفارقوا جماعة المسلمين وإن كان سلطانكم فاجرا»، كما نقرأ فى «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدينوري؟ لو أن المصريين صدقوا هذا الحديث لما ثاروا ثورتهم الأولي، ولما ثاروا ثورتهم الثانية! وهل نصدق ابن تيمية حين يرى أن الشعر فاحشة، وحين يقول إن الباطل هو الغالب فى الفلسفة، بل الكفر الصريح كثير فيها؟ وهل نسمع كلام ابن حجر المكى حين يقول عن الموسيقى وآلاتها «المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق» إنها «كلها محرمة بلا خلاف»؟ وهل يجب علينا أن نحتقر غير المسلمين وألا نقول للواحد منهم يا أبا فلان! لأن الكنية كرامة وإجلال فلا يحيا بها الذمى لأنه عدو الله، كما يقول الحكيم الترمذي؟ وهل صحيح ما جاء فى بعض الأحاديث المنسوبة للرسول عن الذباب، وعن الذئب الذى كلم الراعى باللغة الفصحي، وعن أكل الفجل.. الى آخره؟ وهذه ليست مجرد ثقافة وانما هى واقع مشهود، ليست مجرد كلمات سوداء فى كتب صفراء وإنما هى أحزاب وجماعات وتنظيمات محلية ودولية. السلفيون عندنا يرفضون تحية العلم الوطني، وقد تابعنا فى الشهور الماضية ما أثير حول تهنئة المسيحيين المصريين بأعيادهم، وتابعنا حرق كنائسهم وتهجيرهم من قراهم، وتابعنا ونتابع الدعوة لمنع عرض بعض الأفلام السينمائية، وقد قرأت فى بعض المجلات العربية مقالات يدافع فيها كتابها عن الرق، فالجارية تحتاج لسيد يطعمها، والسيد يحتاج لجارية تمنحه جسدها، والحياة تبادل وتعاون! هل يكفى أن يستنكر الأزهر الشريف ما قامت به «بوكو حرام» أم أن عليه مراجعة هذا التراث، والتمييز فيه بين الإسلام وما دخله فى عصور الظلام والطغيان؟! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي