لأن الصراع بين اليهود والعرب فى فلسطين ليس مجرد صراع مسلح بين قوتين كما هى الحال فى بقية الصراعات عبر التاريخ الإنسانى ولكنه صراع حضارى بين شعبين يزعم أحدهما وهو اليهودى أنه صاحب الأرض وليس له وطن آخر يعيش فيه لذلك فإنه عندما عاش فى البلدان الأخرى فقد عاش منعزلا عن الآخرين فى مجتمعات خاصة به معروفة باسم حارات اليهود أو الجيتو للحفاظ على هويته وما إن وجد الفرصة للذهاب إلى فلسطين التى يعتبرها أرض الموعد حتى عمل وبأقصى قوة على محو هوية العرب الفلسطينيين بهدم اّثارهم وطمس تاريخهم ولذلك أزال منذ عام 1948 حتى الآن مايقرب من 97 % من المساجد والمقامات التى كانت تقدر بأكثر من 1200 مسجد ومقام ، كما لم تسلم الكنائس والأديرة المسيحية من هذا العدوان غير المسبوق فى التاريخ الإنسانى ولايضارعه إلا العدوان الهمجى للتتار على بغداد، ولذلك فإن المسمى الحقيقى لنكبة فلسطين يجب أن يكون نكبة الحضارة الفلسطينية . مراسل صحفى وعندما سافرت إلى فلسطين كمراسل للأهرام حملت الكاميرا فى يدى وبدأت رحلة بحث فى القدس العربية المحتلة والخليل وبيت لحم وبقية المدن والقرى الفلسطينية من اجل تصوير ورصد ماتبقى من التراث الفلسطينى اسلاميا كان أو مسيحيا أوماقبل الأديان، وكانت محصلة رحلتى التى بدأت منذ عام 2005 هى اننى اكتشفت أنه حتى فيما يتعلق بنسبة ال 3% المتبقية من الآثار والمعالم الفلسطينية فانها لم تسلم من العدوان الحضارى الصهيونى فقد مارس المستوطنون المتشددون المدعومون من الحكومات والأحزاب اليمينية المتطرفة أبشع أنواع الانتهاك والتخريب عليها . فترى الكثير منها وقد تحول إلى بارات أو ملاه ليلية ومحال لبيع الخمور والجانب الآخر تحول إلى مخازن واسطبلات للخيل وجراجات للسيارات, ناهيك عن الاستيلاء على جانب ثالث لتهويده أو إغلاقه نهائيا بحجة الإجراءات الأمنية . ورغم أنه من الطبيعى وفى ظل وجود احتلال استيطانى استئصالى أن تكون المدن الفلسطينية البارزة كالقدس وبيت لحم والخليل هى الأكثر تعرضا لعمليات التهويد ومحاولات إزالة الهوية العربية منها سواء الإسلامية أو المسيحية ولكن مارأيت بعينى رأسى وماسجلته بعدستى كان اكبر بكثير من أى خيال وتصور. ففى القدس على سبيل المثال لايكاد يمر يوم دون أن تشهد عدوانا جديدا عليها. فها هى حارة الشرف الفلسطينية تتحول إلى حارة اليهود ولم يسمح لى الحراس الإسرائيليون الواقفون على مدخلها بمجرد المرور منها لأنها تمثل إحدى نقاط عبور المتشددين اليهود إلى منطقة الحائط الغربى للمسجد الأقصى والمعروف باسم حائط البراق والذى سيطرت عليه قوات الاحتلال فى حرب الخامس من يونيو 1967 وقامت بتحويله إلى ما يسمى بحائط المبكى كما أغلقت باب المغاربة المؤدى إليه أيضا وهدمت حى المغاربة الملاصق لسور المسجد الأقصى المبارك ومع ذلك تمكنت من الوصول للمكان وتصويره وتصوير العدوان الإسرائيلى المتواصل عليه حيث يعمل علماء الآثار الإسرائيليون ليل نهار فى حفر الأنفاق انطلاقا من باب المغاربة وحارة الشرف بحجة البحث عن بقايا هيكل سليمان أسفل المسجد الأقصى مما أدى إلى تصدعات كبيرة فى جميع مبانى البلدة القديمة وتجرى معظم الحفريات من الجهة الجنوبية للأقصى وهى أرض أوقاف إسلامية مما أدى بالفعل لتدمير القصور الأموية الشهيرة بالمنطقة كما يحاولون الاستيلاء على العقارات المحيطة بالحرم القدسى الشريف من بيوت المسلمين وغيرها أو أملاك المسيحيين (كدير مار يوحنا) وتحويلها إلى كنس، ومراكز للشرطة ومقار للمؤسسات الدينية التوراتية التى تريد هدم الأقصى. مخلب قط وفى داخل البلدة القديمة بالقدس كان هناك منظر يتكرر فى الشوارع والحارات والأزقة وهو منظر حراس إسرائيليين مدججين بالسلاح تجدهم أمام احد المنازل أو المحال وعندما تسأل عن سبب وجودهم يقال لك إن اليهود اشتروا هذا المبني، وبالتالى حولوه إلى مخلب قط للسيطرة على كامل الشارع أو الحارة أو الزقاق كما هى الحال فى بيت شارون داخل البلدة القديمة . ومع استمرار رحلاتى إلى القدس وبيت لحم والخليل كان المنظر الثانى الذى يستفزنى دائما هو منظر الجرافات الإسرائيلية وهى تهدم أجزاء من المقابر الإسلامية التاريخية لاستخدامها فى شق شوارع توصل إلى الأحياء الاستيطانية اليهودية علاوة على إقامة مبان حكومية مكان تلك المقابر التى تعد جزءا لا يتجزأ من التاريخ الفلسطينى ومن أشهر مقابر القدس التى يحاولون إزالتها مقبرة «مأمن الله» أو ماء من الله والتى توجد خارج حدود البلدة القديمة ولكنها تضم رفات الالاف من الصحابة والقادة والزعماء من الذين شاركوا فى فتح المدينة المقدسة فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكذلك قادة جيش الناصر صلاح الدين الايوبى واعيان ووجهاء فلسطين لما يقرب من 1300 عام . ومع كل عام يمر كنت الاحظ تغييرا ملحوظا فى خريطة المدن الفلسطينية حيث تزحف المنشآت الإسرائيلية لتحل محل المبانى التاريخية الفلسطينية أو على الأقل اجد ان اليهود باتوا يقاسمون المسلمين والمسيحيين فى كل شيء ويقتسمون معهم أى شيء حتى المساجد والمقامات والكنائس كما حدث على سبيل المثال فى الحرم الإبراهيمى بالخليل الذى بات نصفه للمسلمين ونصفه للمحتلين بعد أن أاستغلت سلطات الاحتلال الإسرائيلى حادثة مجزرة الحرم الإبراهيمى التى ارتكبها الإرهابى باروخ جولدشتاين صباح يوم الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان المبارك لسنة 1414ه الموافق الخامس والعشرين من فبراير لسنة 1994 ميلادية والتى أسفرت عن استشهاد 29 مصليا داخل المسجد علاوة على 31 غيرهم خارجه لتجبر السلطة الفلسطينية على التوقيع على اتفاق تقسيم الحرم الإبراهيمى بين العرب واليهود بحجة أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يهوديا وكانت زوجته سارة يهودية .