يبدو أن موضوع لعبة الشطرنج الكبري ودقه علي أبوابنا أثار شجونا وتساؤلات وكيف لا؟ إذ يشهد تاريخ مصر عبر العصور أنها كانت علي الدوام في قلب ديوان التلاقي والصراع بين مختلف الحضارات والثقافات والأمم. يبدو أن صاحبي استشعر نفس المعاني, وإذ به يعجل من لقائنا التقليدي, إذ اختار هذه المرة ساعات الصباح المبكر للدخول من باب اليمين علي قاعة المكتب, مقام لقائنا التقليدي. صاحبي يبدأ من البدايات, وكأننا أمام بحث مشترك في منهج الحوار: أنت تقول وتكرر القول في كل مناسبة أن مصر لم تعرف العزلة أبدا وإنما عاشت متأثرة بالصراعات المحيطة, وكذا مؤثرة في تشكيل دروب التلاقي برغم الاختلاف.. طيب: لو كان الأمر كذلك فما الأمر بالنسبة لما يحدث, أو لا يحدث اليوم في ديارنا المحروسة؟.. صاحبي لم يبهرني.. الحق أن هذه الأيام لا تمهل المصريين المهمومين بأمر الوطن, الصعوبة تكمن في زاوية تناول هذه الهموم, خاصة لو أدركنا أننا في قلب تشابك عمليات لعبة الشطرنج الكبري. صاحبي يواصل الحديث, يشاركني في التساؤل: أين يا أخي مشاركة مصر في تقلبات الموقف من حولنا وهي تتجه إلي صياغة عالم جديد, علي حد العبارة المحببة لديك لوصف جديد العالم؟ يعني, أود أن أفسر كلامي: منذ وثبة52 يناير تحرك قطار ثورة الشباب ليعم قطاعات واسعة من حياتنا المصرية, وقد اختار التركيز علي خلافات الداخل ربما اعتقادا منه أن هذا هو المتاح, أو الأكثر إلحاحا, أو الذي يشغل بال الناس بعد طول تغييب... صاحبي يري أنه لابد من تدقيق النظر في موضوع الخلافات في الداخل: هل تعتقد حقيقة أن الصراع القائم علي امتداد حياتنا العامة وفي أعماق الوجدان المصري يهتم باختلاف المصالح في مختلف مجالات حياة مجتمعنا أم أنه يذهب إلي ما هو أبعد من ذلك, وقد اختارت طلائع بذاتها أن يكون التباين, وبالتالي الصدام, بدءا من العقائد, والإيمانية, بحيث أصبح مجال الدين هو الأكثر إلحاحا وكأن الثورة قامت من أجل استرداد البعد الديني, وعلي وجه التخصيص إحياء ما زعمت هذه الجماعات أنه ضاع في أجيال تاريخ مصر الوطني في العصر الحديث. وفي كلمة: أرادت جماعات التيار الديني أن تصبغ وثبة مصر الثورية بأنها إحياء لأولوية الدين في المجتمع كما كان الأمر في تصور هذه الجماعات قبل نهضة مصر بدءا من عصر محمد علي باشا الكبير في مطلع القرن التاسع عشر وذلك بالإفادة من والتفاعل مع تعاليم ثورات أوروبا الحديثة التي حملها بونابرت ورجال البعثة العلمية إلي ديار مصر, فكانت ترسانة التحديث التي تجمعت في المعهد المصري الذي امتدت إليه يد الإجرام منذ أسابيع. صاحبي يشاركني بصوت عال:... وكذا يا أخي أمر اقتصادنا الوطني وهل ننسي ما قدمه طلعت حرب من قلب القيادة الوفدية في مجال بناء هيكل الصناعة الحديثة المصرية التي أبهرت عالم الجنوب قبل الحرب العالمية الثانية. ثم أفلم يكن تأميم قناة السويس والسد العالي, وكذا القطاع العام والحديد والصلب قاعدة لانطلاق ثورة صناعية وتكنولوجية طليعية علي ساحة الدول النامية والتابعة في العالم أجمع؟ لقد أنجزنا هذا الفتح الحضاري بفضل إيماننا الوطني وتمسكنا بالوطنية والإيمانية في عناق صادق وتوجه من الديموقراطية إلي العدالة الاجتماعية صوب الاشتراكية مع الاعتزاز بعقائدنا الإيمانية التي طالما رفضت التعصب والتفرقة بين المواطنين. صاحبي يؤكد هذا التوجه: طيب... لو اتفقنا علي انصراف الطلائع المصرية منذ52 يناير إلي البعد الإيماني وضرورة الاقتناع بأحقية صحوة الإسلام في العالم العربي وديار مصر.. فكيف يمكن أن نواجه تغيير العالم بإيقاع متعجل وهو يدق الطبول وكذا يفتح أبواب الجديد من حولنا؟ ارتفعت نبرة التهديد والمخاطر من حولنا وارتفع كذلك سقف إمكانات الإفادة من جديد العالم لو أردنا مشاركة القوي الصاعدة مثل مجموعة دول البريكس( البرازيل, روسيا, الصين) علي امتداد قارات العالم ومحيطاته. لكنني أود أن أسألك: كيف تتبدي معالم الأخطار من حولنا, هذا بالإضافة إلي ضعف قوة دولنا؟ الدائرة الجغرافية التي تمثل مصر مركزها الجغرافي والحضاري هي أيضا دائرة إنتاج النفط والغاز, عصب تحريك الاقتصاد الصناعي المعاصر في العالم أجمع. وفجأة بدأت تتشكل خريطة استراتيجية جديدة منذ سنوات قلائل خاصة بعد حرب أكتوبر, جعلت من هذه المنطقة ساحة لاجتماع أكبر قوة حربية استراتيجية ضاربة في العالم. صاحبي يقاطعني: طيب يا أخي ما المانع في ذلك؟ أليست هذه حماية لنا.. أم أنها سيطرة علي مصادر ثرواتنا وحماية لهذه السيطرة علي أيدي دول الهيمنة العالمية؟... أم ماذا؟.. صاحبي علي حق: لا داعي للتسرع في أمور الدنيا, خاصة ما يتعلق منها بالتحرك المستقبلي, ما دمنا نؤمن بأننا في مطلع مرحلة تاريخية كبري سوف تتخذ شكل صياغة عالم جديد. نتوقف هنا بعد إدراك تقلب أولويات التحرك في ديارنا لنتجه إلي مواصلة التنقيب عن نواحي التفاعل التي تعبر الآن عن المرحلة الجديدة من لعبة الشطرنج الكبري وقد أحاطت بديارنا. المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك