سهرات هذا الشهر تدفع إلي مواصلة الحوار.. * صاحبي يقول إنه حائر لا يستطيع أن يشاركني في ما يراه من تناقض في المنهج الذي عرضنا له, ألا وهو التوجه لاقامة دوائر تلاق بين التناقضات مادام أن التناقض هو جوهر الوجود.. يتساءل:يعني قصدك احياء من جديد لفكرة الوسطية التي قال بها كاتبنا الكبير توفيق الحكيم؟ صاحبي اتجه دون تردد إلي تساؤل مشروع حاول به بعض المفكرين والكتاب أن يطلقوا عليه فكرة الوسطية وقد تلاحم جيل جديد من المفكرين اتجهوا إلي الاعتراف بالتناقض في جميع الظواهر المجتمعية بدءا من منهج الفكر الجدلي الذي احتل ساحة واسعة في ديارنا منذ الحرب العالمية الثانية. كان هذا هو الدافع إلي صياغتنا لمفهوم الأمة ذات المستويين تجاوبا مع إدراك الناس اللي تحت وكذا الناس اللي فوق لجديد تحرك المجتمع في معاركه من أجل التحرر والتنمية والنهضة وهذا مثلا الصرح العظيم الذي تركه لنا المؤرخ المصري رفيع المقام عبدالرحمن الرافعي بك والذي عنونه بأنه تاريخ الحركة القومية المصرية منذ عصر مجموعة مكتبة زاخرة كانت ومازالت المرجع الرئيسي لتاريخنا السياسي المعاصر. وقد حرص المؤرخ الكبير علي التعريف ما اصطلحنا علي تسميته بالحركة الوطنية بأنه الحركة القومية المصرية. كان ذلك في مرحلة ما قبل توجه مصر إلي الوحدة العربية, وان كنا رأينا بعد أستاذنا عبدالرحمن الرافعي انه يمكن ان نجمع بين صلب حركة التحرر الوطني من أجل الاستقلال والتقدم والنهضة مع اتساع رؤية مصر إلي ساحة الوحدة العربية وذلك في صياغتنا لمفهوم الأمة ذات المستويين. * صاحبي يعود إلي الفكرة التي جمعت بيننا منذ أسابيع ألا وهي سعينا المشترك إلي كيفية إعادة ترتيب أوراق الدار, بدلا من تراكم الخلافات وتعميق الفجوات وكأن المكتوب علي مصر أن تظل في ساحة الضياع: هل أنك تسعي إلي تسطيح الأمور, علي أساس أن إعادة ترتيب الأوراق تعني الاطاحة بكل ما يعوق التقدم واقامة الجديد دون العناية بالاستمرارية أم ماذا؟ لا أتصور, هكذا بدأت الحديث, أننا نستطيع أن نتبع منهج الأبيض والأسود, جوهر تفكيرنا كما تعلم جدلي ولكن الجدلية لا تعني أن جميع التناقضات علي قدم وساق ونفس الدرجة من حيث طاقتها علي دفع التغيير بشكل مقبول وحاسم في آن واحد. * صاحبي يقاطعني: دخلنا في ساحة الضباب.. لا أفهم الفرق بين الوسطية ومنهج الجدلية. وهل مثلا حاولنا أن نتجه إلي ساحة التلاقي كما تقول بشكل يتعدي مجرد الوسطية؟ مرة أخري يصل صاحبي بنا إلي ساحة امتحان أفكارنا ومحاولاتنا للتجديد إلي الكشف عن إمكاناتها في الواقع الذي نحياه. السؤال الذي يطرحه صاحبي يقودنا إلي أهم اجتهاد للتجديد الفكري والعملي في تاريخنا المصري المعاصر, ألا وهو: صياغة فكرة الجبهة الوطنية المتحدة منذ الأربعينيات من القرن الماضي, بدلا من مجرد التحالف والاتفاق أو التوافق المعمول به تقليديا في مجال السياسة بمفهومها التقليدي. ان الرؤية التي أدت إلي صياغة فكرة أو مفهوم أو سياسة الجبهة الوطنية المتحدة هي أن الأمة تجمع في طياتها أوفر قدر من المصالح والمشاعر والآمال المتاحة لأي تكوين مجتمعي آخر. وأنها أي الأمة هي الساحة المثلي التي تتيح تعبئة الطاقة المجتمعية لأي تجمع بشري, لو أدركت طليعتها الفكرية والسياسية بوضوح هذه الحقيقة, ثم راحت تبحث عن خصوصية الأمة التي تسعي إلي تحريكها وقيادتها فعندما تم صياغة هذا المفهوم أدركت قيادات الحركة الوطنية المصرية علي تنوعها منذ الأربعينيات من القرن الماضي أنها تستطيع أن تعتمد علي طاقات كانت تبدو متناقضة وكانت كذلك من الناحيتين المجتمعية والفكرية ولكنها تتمسك بأولوية واجب كسر التبعية وفتح الطريق أمام الاستقلال والسيادة للتقدم في كافة مجالات الحياة واحتلال المكانة اللائقة بالوطن وذلك للتوجه صوب تلك النهضة الحضارية حلم مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر. * صاحبي يتساءل: خير.. ولكن الجبهة الوطنية المتحدة انتهي أمرها, بعد الاشراقة الأولي.. أليس كذلك؟ قد تكون هنا نقطة اختلاف وعندنا انه يجب التمييز بين فكرة الجبهة الوطنية المتحدة في صياغتها الأولي, ثم تطورها في ظروف مغايرة تأزمت الجبهة الوطنية المتحدة في صراعات داخلية قاسية ولكنها عادت تتأكد في حروب مصر السويس, الاستنزاف, أكتوبر كما استطاعت أن تتبدي علي صورة فكرة قوي الشعب العامل, ثم راحت تنزوي وعندنا أن هذه الفكرة المحورية منذ أكثر من نصف قرن تتبدي اليوم تدريجيا أمام مساحة واسعة من الرأي العام المصري لحظة شعوره بضرورة التعبئة لحماية مصر من المخاطر والحصار. صاحبي يتبني ارتياحا وكأن هذه الايضاحات تمثل حلا لموضوع حديثنا اليوم.. يبتسم وهو يقول: أفهم من كلامك أن فكرة التحالف بين الأحزاب والهيئات هي الحل؟ موضوع التحالف في مجال الحياة السياسية يحتاج أولا وقبل كل شيء إلي الإجابة علي السؤال التالي, وهو في الصميم: هل أن التحالف المنشود يدفع بالهدف المنشود منه إلي مزيد من إمكانية النجاح؟ أم أنه اتفاق مرحلي لتقديم قائمة واسعة من المشاركين في رفضهم لما هو قائم, دون التحقق من مدي فاعلية هذا التحالف المنشود في مجال تحقيق برنامج العمل؟ الجبهة الوطنية المتحدة تتيح ساحة واسعة من المعاني والأهداف, لكن هذه الساحة نفسها يتسع مجالها بقدر التوافق الفعلي من أجل تحقيق أهداف محددة بدلا من أن تكون مجرد إعلان رفض لما هو قائم ومعني ذلك أن الجبهة الوطنية المتحدة ليست مفتاحا سحريا وانما هي ساحة تتشكل من خلال صراعات المصالح المتباينة في لحظة معينة من التاريخ تتسع أو تضيق بدءا من تطور الحراك المجتمعي والسياسي. ** قال صاحبي: هذا في الساحة الداخلية.. أسألك: هل يكفي هذا الاجتهاد؟ ألا تري ان أمامنا واجب دراسة ما يتيحه العالم الجديد من إمكانات جديدة؟.. وأن نعمل مع القوي الطالعة بدلا من الاكتفاء بموقف مكانك سر الذي يحاصر كل جديد أليس كذلك؟.. اراك تبتسم..