انشقاق الجماعة يصب في صالح أعدائها. والمسئولية الأكبر يتحملها من يري في نفسه الأكثر حرصا علي الجماعة وحبا للوطن. تشهد جلسات الارشاد النفسي الأسري في كثير من الأحيان لقاء بين زوجين استعرت بينهما الخلافات, ويكون حديث كل طرف في البداية مركزا علي سلبيات الطرف الآخر مستشهدا بالعديد من الوقائع الحقيقية التي تؤكد موقفه, وغالبا ما يتجاهل الطرف الآخر تلك الوقائع مقللا من أهميتها مركزا بدوره علي وقائع حقيقية تؤكد ما لدي الطرف المقابل من سلبيات, ومن الأساليب التي يستخدمها المرشد النفسي أحيانا أن يحاول دفع الطرفين إلي البحث عن ايجابيات في الطرف الآخر ملتمسا التقاط وقائع حقيقية من ماضيهما تؤكد تلك الايجابيات. وإذا انتقلنا من علم النفس الارشادي إلي علم النفس السياسي لوجدنا اننا نستطيع التمييز بين نوعين من الحوار نستطيع أن نطلق علي أحدهما الحوار اجبارا وعلي الآخر الحوار اختيارا. هناك من يضطر اضطرارا للحوار مع الآخر بحكم الوجود أو بحكم ضغوط الرأي العام أو ضغوط طرف ثالث, ويبدو الحوار للوهلة الأولي كما لو كان حوارا حقيقيا ولكننا لو أرهفنا السمع لوجدنا المتحاورين أشبه بالزوجين اللذين أشرنا إليهما أنفا قبل ذهابهما إلي جلسات الإرشاد: الطرفان لا يتوقفان عن الحوار وكل طرف يعلن أنه يسعي بكل اخلاص للاتفاق, ولكن الهدف يكون دائما هو تذكير الآخر بسلبياته في الماضي والحاضر, وغالبا ما يصل الطرفان إلي إنهاء العلاقة بالانفصال, أو قتلها بالعودة بالتزام الانكفاء والصمت. يحدث شيء شبيه بذلك في مجال الحوار السياسي حين يكون أحد الأطراف مجبرا علي الحوار أو التعايش أو التحاور مع آخر لا يري أملا أو فائدة يرجوها من محاورته, بل قد يري في مجرد محاورته تهديدا له, فتكون استراتيجيته هي الحيلولة دون بدء الحوار بوضع العراقيل وتضخيم حجم الفجوة بين الطرفين, فإذا لم يستطع فإنه يسعي لتخريبها علي المائدة أو في الميدان. ولقد شهدت شخصيات وبعيدا عن نظريات وتطبيقات علم النفس السياسي العديد من الحالات لجماعة سياسية أو أخري تضطر تحت ضغط داخلي أو خارجي للسعي للحوار مع آخرين, فإذا بقادتها يحرصون علي انتقاء أحد صقورهم ويلبسونه ثوب المحاور الذي يمثلهم, وتكون مهمته تخريب الحوار, وكشف النيات الخبيثة للطرف الآخر, بل وإدانة أي طرف يقدم علي تطوير الحوار باتهامه بالتخلي عن المبادئ. ومن أشهر أساليب تخريب الحوار محاولة اختزال الجماعة الأخري في موقف محدد أو شخصية محددة تجسد سلبيتها وعدوانيتها, كمقدمة لاستفزازها ودفعها بعيدا عن عملية الحوار وتحميلها مسئولية ذلك. ومن ينظر إلي ما يدور حولنا اليوم يري نماذج مكثفة تجسد ذلك. فمن يسعي لحوار من أجل أن يسترجع من أمجاد أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة تلك اللحظة التي انصهرت فيها التيارات الاسلامية ضمن بقية ألوان الطيف المصري التي امتدت لتشمل أقصي مجموعات اليسار تطرفا, مؤكدا أنها مادامت قد حدثت فمن الممكن تكرارها, منتقيا من وقائع التاريخ ما تعرض له الإخوان المسلمون والشيوعيون من قهر واعتقال وتعذيب طيلة سنوات, وكيف أن كليهما لاقي ما لاقي في سبيل ما بدا له تحقيقا للعدل, وكيف أنهما تظاهرا معا ضد الأحكام العسكرية وقرارات الاعتقال. وفي المقابل قد يكون هناك من يدفع إلي الحوار مجبرا أو حتي مندسا, فيبدأ بإعلان حرصه علي وحدة الصف ولكنه يمضي ليسترجع تواريخ الانضمام إلي صفوف الثورة ليصنف الثوار وفقا لنظام الأقدمية من وجهة نظره, دافعا زميله المجبر علي الحوار من الطرف الآخر لتذكيره بأسبقية فريقه في التعرض للاعتقال والتعذيب, ولا بأس من أن يذكر كل منهما الآخر بمواقف استكانة بعض قادة الفريق المقابل للسلطة أو تفريطهم في المبادئ أو اعتمادهم علي قوي خارجية أو دعوتهم للعنف, ويجد كل طرف نفسه في النهاية مساقا للدفاع نفيا أو تبريرا عن كل الوقائع السلبية التي يحملها تاريخ جماعته والتي لا يخلو منها تاريخ جماعة بشرية قط, وتسيطر علي الجانبين عقيدة أن الاعتراف بالخطأ دليل ضعف وأن النقد الذاتي انتقاص من صورة الجماعة, وفي النهاية تتحول تلك اللحظة المتوهجة التي انصهر فيها الجميع إلي استثناء غير قابل للتكرار بل حتي إلي خطأ ما كان له أن يحدث. ومن ثم فليبقي الميدان علي انقسامه وتفتته. ولا يختلف الأمر كثيرا إذا كنا بصدد السعي لاستعادة لحظة متوهجة أخري من تلك الأيام الخالدة حين كانت الأسر المصرية تتسابق بأطفالها لالتقاط الصور بجوار بل علي سطح الدبابات, والهتافات تعلو بوحدة الجيش والشعب. سوف نواجه علي الفور نفس الآليات: اختزال الجيش المصري بتاريخه ونضاله في صور لجنود وضباط ينتهكون حقوق الإنسان ويقدمون علي جرائم تعذيب للثوار وانتهاك للحرمات, وفي المقابل نجد من يسعي لطمس تلك الحقائق أو التقليل من أهميتها والحرص علي تصوير كل من يرتدي زيا عسكريا باعتباره ملاكا لا يصدر عنه خطأ أو منزها مغفور له خطاياه, وأن كل من يوجه نقدا لتصرف صدر من ضابط أو جندي, إنما يسعي لهدم جيش مصر, وفي ظل هذا المناخ تسود عقيدة أن النقد الذاتي من جانب القوات المسلحة يعد دليلا علي ضعفها, وأن الاعتراف الصريح بأن من بين أبنائها من أخطأ ومستعد للمحاكمة قد يفسر باعتباره ينال من هيبتها. وفي مقابل ذلك نجد تحرجا مبالغا فيه لدي الثوار من نقد أنفسهم كما لو كانوا هم الملائكة المنزهون, وفي النهاية تتحول تلك اللحظة المتوهجة التي انصهر فيها الجيش والشعب إلي استثناء غير قابل للتكرار بل حتي إلي خطأ ما كان له أن يحدث. المزيد من مقالات د. قدري حفني