غرس نصل الغدر في سنوات عمر البريء.. انكمشت بداخله مشاعر الرحمة، وأعلن الانقلاب علي ابن أخيه اليتيم المعاق، ورحلت عنه الإنسانية، وتصلب قلبه العليل، وألقي بالصغير في اليم، واغتال براءته حتي لا يكون بقعة سوداء في جلبابه الأبيض بعد أن ضاق من معايرة الناس له بابن شقيقه المعاق ذهنيا. عقد العزم علي قتله، وبيديه القاسيتين دفعه في الترعة، إلا أن السماء كانت له بالمرصاد، وتداولت الأيام، وفقد الجاني عقله، وافترش الأرصفة والطرقات، وتسول قوته، ويفعل ما كان يفعله الراحل البريء، لتظهر عدالة السماء في القصاص السريع من العم القاتل. مأساة إنسانية بطلها طفل «10 سنوات» وهبته الأقدار وجها ملائكيا، إلا أنها سلبته عقله منذ ولادته، وكبر الصغير حتي بلغ الرابعة، إلا أن المرض سكن جسد الأب، وظل يصارعه عامين حتي توفي وترك لزوجته ميراثا ثقيلا مكونا من أربعة أطفال، واستسلمت الزوجة الشابة لأحزانها، وشقت الدروب الوعرة لتربية أبنائها. فوجئت الزوجة بالشقيق الأكبر لزوجها مصدرا قرارا بأن يكون وصيا علي أبناء شقيقه، فهم لحمه ودمه كما قال، واعتقدت أنه سوف يحتويهم ويظلهم، فأسلمته صكوك عبوديتها وأطفالها، واستسملت لأوامره، فهي ابنة الجنوب التي تعلم أن التقاليد والأعراف تؤكد أن العم كما الأب، فرضخت لكل طلباته. وضع العم يديه علي الأراضي الزراعية التي كان يمتلكها شقيقه، وكان يقتر علي زوجته وأبنائه، ولا يلقي إليهم إلا الفتات، تدثرت الزوجة بالصبر والتحمل، وكان طفلها المعاق هو طوق النجاة لها وأشقائه، حيث كان أهالي القرية في محافظة أسيوط يتباركون به، ويطلبون منه الدعاء ويمنحونه المال والحلوي، وكلما أمسك بيديه جنيها هرول إلي أمه ليعطيه لها حتي تنفقه علي أشقائه، فقد حرمته الأقدار نعمة العقل، إلا أنها لم تفقده الحنان.اعتاد الصغير علي اللهو في شوارع القرية والنوم علي الأرصفة، كان يجري وراء الكلاب والقطط حتي اعتاد أطفال القرية علي الجري وراءه ووصفه بالعبيط. ذات يوم جلس العم علي المقهي يرتدي جلبابا فاخرا ويتباهي بأمواله ويطلب المشروبات لكل الزبائن ويتظاهر بثرائه وبكونه ابن الحسب والنسب، حتي انطلق أحد الجلوس كرياح عاتية مذكرا إياه بابن أخيه «العبيط» بأنه يتسول لقمة العيش من أهالي القري، وتمتد يده للجنيه الواحد، وأنه يقذف المارة والسيارات بالطوب، وطالبه بأن يتفرغ لتربية ابن شقيقه بدلا من التباهي بالثراء الكاذب، ووقعت الكلمات علي العم كالصاعقة، وسرعان ما حسم أمره واتخذ قراره بالتخلص من ابن أخيه. لجأ العم إلي حيلة شيطانية، حيث طلب من ابن شقيقه أن يعمل معه تباعا علي السيارة الميكروباص التي يمتلكها، وفرح الصغير بالعمل حتي يتقاضي جنيهات ينفقها علي والدته وأشقائه، ومر اليوم تلو الآخر، والسماء تمطر العم من خيراتها لعله يشعر ببركة البريء «العبيط» ليتراجع عن قراره، إلا أن قلبه كان أشد قسوة من الحجارة، ووقف الجاني بسيارته علي مقربة من إحدي الترع، وأعطي ابن شقيقه »جردلا«، وطلب منه أن يقفز في الترعة ويغترف منها الماء ليغسل به سيارت، ولم يدرك البريء حجم المخاطرة، وقفز في الترعة، فابتلعته المياه وهو ينادي بأعلي صوته: «عمي عمي»، لكن العم كان يقف مراقبا ينفث دخان سيجارته، حتي انتهت الحكاية. خفق قلب الأم لصغيرها، وخرجت تجوب الطرقات بحثا عنه، فقد اعتاد الرجوع قبل آذان المغرب، وقد جاءت العشاء ولم يعد، العم ادعي أنه قام بتوصيله لباب المنزل، واتهمها بالإهمال، وأنه سوف يلقي بها في السجن إذا حدث لابن أخيه مكروه. مرت الساعات علي الأم كالدهر ، حتي انطلقت أصوات الصراخ من النسوة في القرية عندما توجهن لغسل الأواني والملابس علي حافة الترعة، وفوجئن بجثة الصغير تطفو علي السطح. تم انتشال الجثة وحامت الشبهات حول العم القاتل، الذي توجه إلي أرملة أخيه، وأقسم بأن ينال صغارها نفس مصير شقيقه ماإذا تفوهت بكلمة واحدة، أو حررت محضرا ضده تتهمه فيه بقتله، وكانت كلماته المهددة والمتوعدة تقفز أمامها كل حين لتخرس لسانها. استسلمت لقضاء الله وأفقدها رحيل فلذة كبدها إحساسها بالحياة، فلم تجد أمامها إلا الله لتتوجه إليه ليقتص من الجاني حتي تهدأ النيران المشتعلة في صدرها. مر العام واستغل العم سيادته كالعادة تداعبه نسائم السعادة والأمان، ولم يدر بخلده إن محكمة السماء لها قوانينها العادلة. وفي اليوم الموعود، توجه العم إلي الترعة التي أزهق روح ابن شقيقه فيها، وفي نفس المكان انفجر الإطار الأمامي للسيارة، وانقلبت عدة مرات، وأصيب علي أثرها بجروح وكدمات في الرأس ونزيف داخلي في المخ أصاب مراكز التحكم والإدراك، وفي لحظات فقد عقله، انقلب القاتل إلي «عبيط»، ارتدي الجلباب المرقع، وتسول الجنيهات من المارة، وينام علي الأرصفة، ويقذفه الأطفال بالحجارة وهو يسير حافي القدمين، وكان قوت يومه يأكله في مقالب القمامة. وسجدت الأم المكلومة التي فقدت فلذة كبدها شكرا لله، وقامت من سجودها الطويل تتمتم : »يمهل ولا يهمل«.