لم أكن أعلم أنني علي موعد مع السحر والجمال في هذه الرحلة المليئة بالأسرار والغموض ، التي قمت بها بناء علي دعوة كريمة من السفارة التنزانية بالقاهرة وجهت الى مجموعة من الإعلاميين المصريين لزيارة أهم المعالم السياحية والالتقاء بعدد من المسئولين والإعلاميين التنزانيين. وأحمد الله أنني كنت واحدة من هذه المجموعة التي أمضيت هناك 7 أيام من المتعة والإثارة، رأينا خلالها الفصول الأربعة أثناء تجولنا في تنزانيا من الشمال للجنوب. لم يكن هناك وقت للنوم في هذه الرحلة الحافلة بالأماكن والمزارات ، فكانت محطتنا الأولي هي مدينة دار السلام العاصمة السابقة لتنزانيا وأكبر مدنها من حيث عدد السكان وأهم مراكزها الاقتصادية نظرا لتواجدها في الجانب الشرقي لتنزانيا علي المحيط الهندي ، ثم جزيرة زنجبار أو «أرض الأحلام» كما أطلقت عليها، فهي واحدة من أجمل جزر المحيط الهندي، التي تعد مقصدا لقضاء أجازة شهر العسل لما تتمتع به من مناظر طبيعية خلابة وشواطئ ساحرة وخدمات فندقية علي درجة عالية من الجودة والتميز. ولكي تزداد الرحلة إثارة ومتعة، ذهبنا إلي حديقة سرنجيتي الوطنية حيث الطبيعة الخلابة والحياة الفطرية الغنية، التي تطلق العنان للغزلان والزراف والأفيال وحٌمر الوحش والأسود ملوك الغابة كما تعلمنا في الحكايات. وأهم الأشياء التي خرجت بها من زيارة هذه الحديقة، بخلاف الدرس المعروف أن البقاء للأقوى في الغابة ، رأيت واستمتعت برؤية الحيوانات حرة طليقة تعتقد بأنها صاحبة الأرض ونحن البشر ضيوف عليها، فكم توقفنا بالسيارة المجهزة والمحكمة جيدا علي الطرق بسبب مرور قطيع فاتن من الغزلان أو الزراف، مشاهد عفوية ومثيرة التقطناها بكاميراتنا التي لم تتوقف عن العمل طوال الرحلة إلا في المساء لشحن البطاريات ولتفريغ ما سجلته من لحظات نادرة! ولن أنس ما حييت جبل كيليمنجارو بغطائه الجليدي الذي يعد أعلي القمم الإفريقية بارتفاعه الشاهق الذي يصل إلي 5.895 وفي السطور التالية سأروي تفاصيل زيارتي لأعرق وأكبر القبائل في إفريقيا، قبائل الماساي، التي تعيش في أجزاء من تنزانيا وكينيا وأوغندا، لا أخفيكم سرا كم كنت خائفة وكما ترددت قبل النزول من الحافلة، ولكن بتشجيع من مرشدنا السيد ريتشارد الذي كنا نطلق عليه لقب « ريتشارد قلب الأسد» نزلت ودخلت عالم الماساي المحتفظ بأسراره وغموضه حتى الآن. ومن الوهلة الأولي تجد نفسك أمام قبائل شديدة الاعتزاز بعاداتها وتقاليدها، ورجال يتميزون بطول القامة والقوة والصلابة رغم أجسامهم النحيفة، وملابسهم الملونة الشديدة التميز. وبعد أن قام مرشدنا باستئذان كبيرهم، اصطف عدد كبير منهم لاستقبالنا، ويبدو أن الخوف كان جليا علي وجوهنا، لذا بدأ البعض منهم يبتسم ويحاول التحاور معنا بلغة الإشارة تارة، أو يتحدثون مع ريتشارد ويترجم لنا بالإنجليزية تارة أخري. وما هي إلا دقائق معدودة ووجدت مجموعة منهم تأخذ شكل الدائرة ونحن في منتصفها، النساء في جانب والرجال في جانب آخر، وبدأوا يقدمون عروضهم دون أن نسألهم أو نطلب منهم وكأنهم يمتصون خوفنا الواضح في كل تصرفاتنا وذلك بإدخالنا الى عالمهم والاطلاع علي بعض أسراره! وكأنه كان عرضاً مسرحياً أخذك إلي طرق الحياة البدائية التي اندثرت منذ دهور في بلدنا، فرأينا كيف يعيشون، وكيف يحصلون علي النار بطريقة شديدة البدائية مستخدمين روث الحيوانات، وتعرفنا علي فنونهم الخاصة بالصيد، فهنا لا توجد محلات أو متاجر للحصول علي الطعام والشراب، فشعار رجال الماساي الجرأة وخفة الحركة والقوة العضلية، ومن يبلغ منهم الحلم عليه أن يتوغل في الأحراش بحربة واحدة في مهمة إثبات الذات إما العودة بصيد ثمين أو الموت. أكد السيد ريتشارد صدور قوانين تحرم صيد الحيوانات البرية إلا بمقدار حتى لا تتعرض هذه الحيوانات للانقراض. ومن عادات القبيلة التي مازالت تحتفظ بها حتى اليوم، قيام زعيمها بمكافأة من يقدم من أبنائها خدمة ما للقبيلة ويمنحه زوجا من الأقراط ويقلدها له في أذنيه لتصبح بعد ذلك مصدراً لفخره وزهوه بين أقرانه في القبيلة، فهذه الأقراط عنوان للاحترام والتميز. كما أن ظاهرة العنوسة لا وجود لها في عالم الماساي، فرجل الماساي له الحق في الزواج من أكثر من عشر سيدات، كمكافأة له علي تحمل الصعاب والمخاطرة بحياته من أجل بقاء واستقرار القبيلة! رويدا رويدا بدأت أتحرر من خوفي ليحل الإعجاب والدهشة محل الخوف في نفسي، استمتعت بالعرض مع زملائي وتصورت أنني رجعت بآلة الزمن لآلاف السنين وعشت يوما مع الإنسان البدائي ورأيت كيف كان يتغلب علي مشاكله ويلبي حاجاته في غياب كل وسائل التكنولوجيا، بداية من الكهرباء ووسائل الاتصال والأجهزة الكهربائية وغيرها من وسائل الحياة الحديثة، وأخذت أحمد الله كثيرا علي نعمه التي لا تحصي وأنا أشاهد حياة أفراد الماساي التي تخلو من ترف ورغد العيش التي نتمتع به. وفي أثناء عقدي للمقارنة بين حالهم وحالنا، علمت من مرشدنا السياحي أنهم أبوا أن يتعلموا ورفضوا كل محاولات الدولة التنزانية لتحديثهم وتعليمهم، فوفقا لريتشارد أبدي الماساي مقاومة شديدة للتطور، وأكدوا تمسكهم واعتزازهم بعاداتهم وتقاليدهم ، وعدم السماح لأحد بتغيير طرق معيشتهم التي توارثوها عبر الأجيال، كما رفضوا بشدة نزعهم من عالمهم الخاص «. ويعتقد البعض خطأ أن قبائل الماساي من آكلي لحوم البشر، فالطعام الرئيسي لهم يتكون من الحليب الممزوج بدماء الماشية اعتقادا منهم بمنحهم القوة والصلابة، ويأكلون اللحم المشوي، وعسل النحل البري، كما يتم السماح للنساء فقط بتناول الحبوب والخضراوات . وبعد التعرف عن بعض عاداتهم، كنت علي موعد مع المتعة والإثارة، حيث قام مجموعة من أفراد قبيلة الماساي برقصتهم الشهيرة، حيث لمست مدي عشقهم للرقص وليس أي رقص فهم يرقصون في حركات رشيقة وقوية تستمر وقتا طويلا يظهر فيها رجالهم مدي قدرتهم علي مقاومة التعب والإرهاق. واللافت للنظر أن رقصات الماساي تأخذ الطابع الحربي فهي تشبه التمارين العسكرية غير المنظمة. وأبرز ما يميز هذه الرقصات هي حركة رئيسية أذهلتنا جميعا ، حيث يقفز الراقص إلي الأعلى بينما الذراعان مشدودان إلي الجانبين وكأنه قد طار من الأرض في قفزة عالية ! نعم عزيزي القارىء قفزات عجيبة سجلتها عدسة الكاميرا لتشهد بصلابة وقوة هؤلاء الرجال . ومهما وصفت جمال وروعة هذه الرقصة لن أجد في قاموس اللغة والبلاغة ما يصفها حق وصفها أو يعطي هؤلاء الفنانين بالفطرة حقهم في الوصف والإعجاب، فلا تملك إلا أن تقول « الله». ولم تقتصر بالطبع هذه الرقصة التي ستظل خالدة في مخيلتي إلي الأبد علي الحركات والقفزات في الهواء، فقد رأينا مشاركة سيدات القبيلة للعرض عبر رقصات منظمة لهن وغناء رائع أطربنا لكننا بالطبع لا نعرف معناه ! وعندما سألت عن المعني، علمت معلومة غريبة هي أن هناك وظيفة اجتماعية لهذه الرقصة أو هدف ما، فهي ليست مجرد حركات وغناء من أجل إدخال البهجة والسرور ، بل هناك هدف أصيل يتمثل في تنمية قدرات أبناء القبيلة لحماية أنفسهم من أي عدوان قد يواجههم في الغابات التي تعج بالحيوانات المفترسة والحشرات، إضافة لما قد يتعرضون له من غارات قبائل أخري كما كان يحدث في الماضي. وبعد معرفة مغزى هذه الرقصة تأكدت أن حدسي قد أصاب عندما شعرت في البداية وقبل الحصول علي شرح لها أنها رقصات أشبه بالتمارين العسكرية التي يؤديها الجنود وإن تميزت بطابعها الشديد التميز وشخصيتها المتفردة. وقبل أن تنتهي أجمل وأمتع ساعات في قبيلة الماساي، تجولنا مع سيدات القبيلة اللاتي يحلقن رؤوسهن كمظهر جمالي كما يعتقدن ! لنري ما صنعته أيديهن من مشغولات يدوية من أقنعة ومنحوتات فنية وعقود وأقراط وأساور تعبر جميعها عن ثقافة شديدة التميز للماساي، والغريب أن كل أفراد القبيلة يرتدي هذه المشغولات الرجال قبل النساء ! وعند انتهاء الزيارة قامت السيدات بالعودة إلي أكواخهن البسيطة المصنوعة من الطين والأغصان والأعشاب، وعدنا أدراجنا ومعنا صور لا حصر لها وذكريات لن تنسي لأقدم وأعرق قبائل القارة الإفريقية .