كان البيت يمتلئ بالمهنئين وقد تحولت احدى غرفه إلى قاعة طعام، تتوسطها مائدة مستطيلة يلتف حولها الحاضرون على خلفية صوت الأغنية الشهيرة احتفالا بهذه المناسبة التى لا تتكرر إلا مرة واحدة فى العمر. خالتى تسير بين الضيوف حاملة صينية شربات، فى حين ارتدى أنا الجلباب الأبيض المزين بقطرات الدماء، رابطا فى معصمى قطعة من الشاش.. اتجول فاتحا قدماى، لاستحالة ضمهما لفترة لاتقل عن خمسة عشر يوما حسب تعليمات «التمرجى». كانت تغمرنى قبلات الحاضرين (لأنى عريس الليلة) ثم يدس أحدهم ورقة النقود فى جيب جلبابى، فى حين أمى تنبه الجميع (بالراحة ع الواد عشان الجرح) وكنت رغم ما أعانيه من آلام أميل على أخى (العريس الآخر) هامسا فى أذنه متسائلا: «هو عمك اداك كام». الحاضرات يهنئن أمى: «عقبال ما تفرحى بيه» متسائلات «هو مين اللى عملها له»، وتجيب هى، «أبو صلاح»، أشعر بالشفقة فى وجوههم عندما أشعر بحاجتى إلى الحمام.. تهرول أختى لإحضار «طشت» ملئ بالماء لأجلس بداخله منتظرا أصعب لحظة يعيشها أى طفل فى حالتى، تتعالى صرخاتى فى حين تهون أمى: «استحمل يا حبيبى»، اسألها بسذاجة، «هو أنا مش هعرف أعمل حمام تانى»؟ كنت مع كل ألم، أكيل السباب لأبو صلاح، ومن أعطاه فى فعلته، لايزال صوته لايفارق أذناى وهو يقول لأبى وخالى «أمسكوه كويس»، أصيح فى وجهه الصارم بحكم طبيعة عمله كموظف ميري، قائلا: «حرام عليك يا ابن ال....»، فيرد ضاحكا: «عشان تبقى راجل». كان أبوصلاح الراعى الرسمى للطب فى المنطقة «ايده خفيفة فى ضرب الحقن»، وكان لزاما عليه أن يزورنا يوميا «يغير على الجرح»، فى عملية أكثر قسوة من رغبتى فى دخول الحمام. ما أجملها ذكريات، لا أعلم لماذا داهمتنى فى مشوارى للمسجد، مرتديا جلباب أبيض أمسك فى يمينى «مسبحة» معطرة بالمسك، وأسرع الخطى للحاق بالجماعة. بجوار المصلين وقفت فى خشوع، ازداد مع سماعى صوت الإمام، وبعد انتهاء الصلاة استندت إلى الحائط اتلو الأذكار، دفعتنى رغبتى الملحة فى مصافحة الإمام، أن اراقبه حين رفع يديه إلى السماء داعيا ربه، وبمجرد أن انتهى استدار واعطى وجهه للمصلين. كادت ضحكاتى تملأ المسجد عندما فوجئت أن الإمام هو نفسه «عم أبو صلاح»، غيرته السنين، أبيض شعره وملأت السكينة وجهه، التصقت بالحائط وضممت قدماى محاولا التأمين على المنطقة التى عبث فيها الإمام من عشرات السنين، لم يتذكرنى عندما التقت عينانا.. قمت بهدوء متسللا امسكت حذائى وفى الخارج كان مشهد «الطشت» لايفارقنى.