في روايته المستقبلية1984 التي كتبها في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي تخيل جورج أورويل أن حكومة دكتاتورية استولت علي الحكم في بريطانيا وقررت إنشاء وزارة للحقيقة تصدر قرارات وفتاوي لا يمكن مراجعتها لأنها تمثل الحقيقة المطلقة وتقوم بعملية غسل مخ ممنهجة لأفراد الشعب. وبالإضافة لهذه الوزارة قررت السلطة الدكتاتورية إنشاء شرطة للأفكار تفتش في عقول المواطنين وتحاسبهم علي ما يفكرون فيه وليس علي ما يقترفونه من جرائم أو مخالفات وتحاسب الناس علي النيات وليس علي الأفعال. ولم يكن مقصد أورويل أن يكتب رواية من الخيال العلمي. فقد كان كتابه توصيفا دقيقا وواقعيا للنظم الدكتاتورية المتطرفة التي لا تترك للمواطنين المجال من أجل ممارسة حرية التفكير والتعبير وتقمع الفكر والرأي وهي أسوأ أنواع الدكتاتوريات. ومن يسترجع ما صنعه جهاز مباحث أمن الدولة في عصر مبارك فسوف يكتشف أنه قام بهذا الدور لمصلحة النظام الحاكم. كانت مباحث أمن الدولة تدخل إلي عقل المواطن وضميره وتخترق حياته الخاصة وتقتحم منزله وحجرة نومه حتي تستبق أي تفكير قد يشكل خطرا علي الحاكم وبطانته. لكن الدكتاتورية التي وصفها أورويل لها أبعاد أخطر كثيرا من تلك الأنظمة التي تقوم علي القمع البوليسي. فهناك نوعية من الدكتاتوريات لا تستهدف حماية النظام القائم فقط وحماية الفساد والفاسدين فقط وإنما تخطط للسيطرة علي عقول الناس والهيمنة علي ضمائرهم باسم سلطة غيبية عليا تتولي هي تحديد صلاحياتها وتفسير أهدافها ورسالتها. وأنا شخصيا لست من الذين يعترضون علي تشكيلة مجلس الشعب الذي انتخبه المواطنون بعد الثورة, ولست من الذين يقولون إنه لا يمثل الشعب المصري. فالاقتراع قد أتي بالجماعات الدينية بكثافة حتي أنهم يسيطرون علي أكثر من70 في المائة من مقاعد مجلس الشعب وعلينا أن نقتنع بأن تلك هي إرادة الشعب في هذه اللحظة التاريخية من حياتنا رضينا بذلك أو لم نرض. لكن المشكلة أن التيارات الدينية في مصر لم تقم إلي الآن صراحة وبكل وضوح بالمراجعة التي قام بها الإسلاميون في تركيا والتي لخصها رئيس وزراء تركيا ورئيس الحزب الإسلامي بها رجب طيب أردوغان خلال زيارته للقاهرة في أواخر العام الماضي قائلا إنه مسلم في دولة علمانية. وهذه المراجعة التي جرت في تركيا معناها أن التيارات الدينية تتحول من تنظيم للدعوة ونشر الدين وفرضه علي المواطنين وفقا لرؤيتهم الخاصة إلي أحزاب لها برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي تشارك في الانتخابات كغيرها من الأحزاب وتحكم بالقواعد السياسية التقليدية المتعارف عليها في كل مكان وتترك السلطة إذا خسرت الانتخابات التالية نزولا علي إرادة الشعب. ولأن التيارات الدينية عندنا لم تقم بعد بتلك المراجعة فإنه من حقنا أن نتوجس مما ينتظرنا في المستقبل القريب والبعيد. فإذا كان أقطاب التيارات الإسلامية مقتنعون أنهم يحكمون بإرادة إلهية عليا فإن المنطق يقول أنهم سيضربون عرض الحائط بقواعد الديمقراطية ويسعون لإنشاء حكم أقرب إلي الخلافة الإسلامية ولا يتركون السلطة لا بانتخابات حرة ونزيهة ولا بأية وسيلة أخري. وبالتأكيد أن الفساد والظلم الاجتماعي والاستهتار بإرادة الناس هي أركان لنظام يقمع الشعب ويضر بمصالح المجموع لصالح طبقة أو فئة محدودة لا تشكل عادة أكثر من 1 في المائة من المجتمع وكان حكم مبارك نموذجا لهذه النوعية من الأنظمة السياسية. لكن النظام الذي يتصور أصحابه أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة وأنهم يحكمون بشريعة الله وأن من يخالفهم خارج علي قانون السماء هو نظام لا يقل خطورة عن الأول. وإذا تأملنا في الأسباب العميقة وراء انفجار ثورة 25 يناير فسنجد أنها تختلف تماما عن كل ما حدث من قبل من حيث دوافعها وأهدافها. فثورة عرابي قامت من قبل الضباط المصريين اعتراضا علي احتكار الأتراك والشراكسة للمناصب العليا بالجيش ولم تطالب أبدا برحيل الخديو توفيق. وثورة 19 العظيمة قامت من أجل الاستقلال وضد الاستعمار البريطاني ولم يكن من أهدافها رحيل الملك فؤاد وكان هذا الأخير يدرك ذلك تماما حتي انه تزوج من نازلي في عز غليان الثورة. وانتفاضة 17 و18 يناير1977 كانت بسبب إعلان الحكومة آنذاك عن ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية وهي تدخل بذلك في إطار ما يسمي بثورات الخبز ولم يطالب أحد خلال تلك الانتفاضة برحيل السادات. ومعروف أن أحداث الأمن المركزي التي هزت القاهرة عام 1986 كانت أيضا بسبب الفقر والجوع والحرمان ولم يطالب أحد وقتها سواء من أفراد الأمن المركزي المتمردين أو أي طرف آخر برحيل مبارك. تلك أهم الثورات وحركات العصيان الشعبي التي شهدتها مصر في تاريخها الحديث. أما ثورة 25 يناير فقد كان هدفها المعلن هو رحيل رئيس الجمهورية لكن الأهم من ذلك أن الشعار الغالب عليها كان تلك الكلمة السحرية التي تناضل من أجلها شعوب العالم منذ قرون وهي الحرية والتي بذلت في سبيلها بحار من الدماء منذ ثورات العبيد في العصور القديمة وحتي الثورة الفرنسية ثم الثورات الحديثة في العالم العربي. ولأن شهداء ثورة25 يناير ماتوا من أجل الحرية والكرامة وليس من أجل رغيف العيش وماتوا من أجل أن يعيش الشعب المصري تحت ظل نظام ديمقراطي وليس لتحسين أحواله المعيشية فإننا لا يمكن أن نقبل أبدا بوزارة للحقيقة ولا شرطة للأفكار. المزيد من مقالات شريف الشوباشي