رحل جابرييل جارثيا ماركيز الخميس 17 أبريل 2004 بعد حياة حافلة بالإنجاز الأدبي وتأثير غير مسبوق في القراء مرورًا بجائزة نوبل للآداب عام 1982. وقد باعت رواية مائة عام من العزلة مثلا 50 مليون نسخة فيما يزيد على 30 لغة ترجمت إليها.وهو معروف عمومًا بأنه الروائي الذي مزج الواقعي بالسحري وكانت لرواياته شهرة عالمية: مائة عام من العزلة، وخريف البطريرك، وليس للكولونيل من يكاتبه والحب في زمن الكوليرا. ويغلف ماركيز رواياته بحس السر والغموض. وجعل ماركيز، بالإضافة إلى مبدعين آخرين، رواية أمريكا اللاتينية في صدارة الرواية العالمية. وحينما ترجم إلى العربية لاقت كتبه حبًا وإعجابًا ليسا نابعين في المحل الأول عن براعة التقنيات الأدبية (على الرغم من تحقق تلك البراعة) بل نابعين عن تعاطفه مع قضايا الشعوب المقهورة و قضايا الإنسان عامة. ولاحظ القراء نواحي التشابه بين الواقع العربي وواقع أمريكا اللاتينية، وبين تراثهم الحكائي المجيد في ألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية وغيرها من السير واستلهام ماركيز التراث. فهو يعتبر جدته لأمه أستاذته في الحكي وفاتحة آفاق السحر والجمال أمامه. ويرجع استلهام التراث في الأدب إلى وحدة التجربة الإنسانية في أشياء تتجاوز الزمان والمكان هي الحقائق الجوهرية في المجتمع الإنساني مثل مقاومة القهر والقمع والاستبداد والاحتلال الأجنبي، ورفض التسلق الانتهازي واللجوء في ذلك إلى لغة العامة اليومية وتصوير التقاء آليات القهر القديمة بالقهر المعاصر، والجوهري في الإنسان رفضها ومقاومتها. وقد عاد ماركيز إلى الأسطورة والفولكلور في رد فعل مضاد لما في الواقع المعاصر من تشيؤ ونزعة تجارية. ولا يمثل ذلك عنده هجرًا للتاريخ، ولاقى تمثيل الصراع التاريخي اهتمامًا لديه في التصوير. فهل كانت العودة إلى الأسطورة والفولكلور تؤدي إلى تصوير عالم فيما يزعم بعض المنتقدين غير ممكن؟ إن ما يبدو متوهمًا غرائبيًا هو الواقع المعاصر نفسه على الرغم من تنكره العقلاني. وكانت الكتابة عند ماركيز لا تجيء إلا مصحوبة بالألم ومع ذلك لم يكن هناك شيء آخر يريد ماركيز عمله فقد تحرق شوقًا ليكتب حتى لا يموت. وكانت الرغبة قد بدأت مع ألف ليلة وليلة في الطفولة، حكاية السمكة التي تحمل في بطنها ماسة ضخمة ومناقشات أيام الطلبة في المقاهي حيث اكتشف كافكا وفوكنر وهيمنجواي وفيرجينيا وولف وإن ظلت جدته لأمه أكبر مؤثر فهي التي أخبرته أن أغرب الأشياء حقيقية وأن الواقع هو أغرب الأشياء. ومعظم شخصياته لا تفترض انقسامًا بين حالة اليقظة وحالة الحلم فهي مثل السائربن نيامًا. كما أخبره جده حينما أبصرا لأول مرة الأفق وهما يبحران في قارب أنه لا يوجد شاطئ في الجانب الآخر، فالامتداد لا نهائي. وقد جعل ماركيز تعبير الواقعية السحرية تعبيرًا شديد الانتشار على الرغم مما يحيط به من غموض، فهو يشير إلى روايات تجمع الواقعية مع عناصر متوهمة فانتازية في مقدمتها مائة عام من العزلة. يرى بعض النقاد أن واقعية ماركيز السحرية هي تطوير لسيريالية مبتكرة تعبر عن وعي العالم الثالث. والسريالية ارتبطت في فترة مبكرة بالسياسات الثورية وتعني محاولة تجاوز حدود الواقع من خلال الاهتمام بالأحلام والاستقاء من قوى اللا شعور الذي ليس مجرد مستودع للغرائز فهو لغة أيضًا ويحوي جميع الدوافع النفسية، وتحاول المثل الاجتماعية ويحاول الضمير قمعها وهذا اللاشعور الجمعي هو التصورات التي يتوارثها أفراد عرق معين وتتشبث بالبقاء في لاشعور الفرد الذي يتحرك مستجيبًا لمواقف كثيرة ليس له عليها سيطرة مباشرة. ويلجأ الروائي السريالي والواقعي السحري إلى استخدام اللاشعور الجمعي ونماذجه الأصلية، فثمة خصائص نموذجية لذهن الإنسان وروحه مشروطة بالعرق والأمة والعائلة وروح العصر. والروائي السريالي أو الواقعي السحري يستخدم اللاشعور عن طريق الأسطورة التي تفسر أصول الظواهر الطبيعية والإنسانية على أسس فائقة للطبيعة مغرقة في الخيال. ولم تعد الأسطورة اليوم معتقدًا زائفًا يناقض الواقع، فهناك من يرون فيها حدسًا يشتمل على حقائق عميقة عن مسائل مثل الموت والحياة والوجود والمطلق. وهذا الحدس رؤية مباشرة فورية تشبه الإلهام. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى