عاتية هي عواصف الغدر تهب كرياح شمالية تجنح بالعمر إلي صخور الضياع.. وتحطم مغاليق العقل وتجعله جامحا كمهر ينطلق في تيه وتجرفه الرمال إلي حيث لا يعلم حتي تسقط أقدامه في عثرة الدروب الوعرة دون أن يدري من أين أتي وإلي أين يذهب. هو رجل زرع الحقد في طيات نفسه ومن هواجس الأنانية عرف الجريمة ورسم خطوط عمره باللون الأسود ونزع من اعماقه مشاعر الحب وطالت يده الرثة ابن عمه الوحيد فأسدل الستار علي حياته ودس سنوات عمره في أجولة الذاكرة وأطاح بأحلامه وحولها بين عشية وضحاها إلي شهادة وفاة، تخطي الجاني كل مراحل الخيانة والانتقام وتربع علي عرشة الجحود فأزهق روح ابن عمه ثم خرج مع أفراد عائلته للبحث عنه وهو يذرف دموع التماسيح حتي انكشف المستور وظهر الجاني الذي تربي في قصور الكذب والضلال. جريمة بشعة هزت قلوب أهالي قرية الشنابلة مركز صدفا بأسيوط ضحيتها دفع حياته ثمنا للغدر والخيانة وترك الحسرة تفتك بقلوب والديه وشقيقاته السبع فقد رحل عنهم الابن الوحيد والأخ الحنون والسند والحماية والأمان. قال عنه الأهل والجيران الكثير وتغنوا بأخلاقه وأن الحياة لن تطيب بدونه وأن رحيله غرس نصل الحزن في قلوبهم فهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر فتح عينيه علي الفقر وقلة الحيلة ووقف ضيق اليد حائلا دون إتمام دراسته وانسحقت أحلامه علي أعتاب الجهل وبشق الأنفس حصل علي دبلوم الصنايع وعمل سائقا علي سيارة ميكروباص يمتلكها أحد أثرياء القرية حتي يشارك أباه توفير كسرة الخبز لشقيقاته وجلبابا يستر عوراتهن. طرق المرض باب الأب وفتك الفقر بالأم وتراكمت الهموم علي أكتاف الشاب وكبرت الشقيقات وبلغن سن الزواج وخاصم النوم جفونه فهو يحمل علي كاهله أحزانا تنوء عن حملها الجبال الراسيات إلا أنه تلفح بالتحمل والصبر وقرر شق كل الدروب الوعرة والعمل ليلا ونهارا حتي يستر شقيقاته وبعدها يفكر في الزواج وإن كان في العمر بقية. خرج إلي عمله فجرا كعادته واستوقفه ثلاثة شباب ومعهم رابع تبدو عليه علامات الثراء والنبوغ والثقافة تبزغ من بين عينيه وأستقل الأربعة سيارته الميكروباص إلا أن علامات الفزع والرعب كانت ترتسم علي وجه الشاب المثقف ذي الملابس الأفرنجية لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ولكن نظرات زائغة بجفونه محملة بالخوف تنطلق من عينيه وكلما هم بالتنفس بادره الثلاثة الآخرون بنظرات التهديد والترهيب وأدرك أن شيئا ما يحدث داخل سيارته إلا أنه لم يفعل شيئا فهو كثيرا ما يسمع عن القتل في وضح النهار وأن إزهاق الأرواح أسهل من بلع الريق، وأقرب من طرفة العين فتلفح بالصمت حتي وصل الأربعة إلي حيث يريدون ونجا بنفسه لكنه لم يدر بخلده أن مصيرا أسود ينتظره!! مر اليوم الأول والثاني وانتشرت الأخبار في القرية عن اختطاف الطبيب البيطري الذي جاء من محافظة سوهاج لعلاج الدواب بالقرية الصغيرة ومرق أمام عينيه شريط ذكريات الأشخاص الأربعة الذين استقلوا سيارته والأفندي الذي كادت روحه أن تزهق من الخوف وأسرع إلي قسم الشرطة وأدلي بأوصاف الجناة وأسمائهم والمكان الذي استقلوا منه السيارة وتمكنت المباحث من ضبطهم وأرشدوا عن مكان أختباء الطبيب ونجحت قوات الأمن في اطلاق سراحه. توجه الشاب إلي النيابة واعترف علي المتهمين الثلاثة وعندما تداولت القضية أمام القضاء تقدم للشهادة وبعدها بدأ يتلقي مكالمات التهديد من أهالي المتهمين وأنهم سوف يذبحونه ويعلقون رأسه علي مدخل القرية وأنهم وأنهم وأنهم... إلا أنه لم ترهبه تهديداتهم وغلبته صفات أهل الجنوب وسكن الأمان قلبه حتي جاء اليوم الموعود جلس الشاب علي مقهي القرية بصحبة ابن عمه وأصدقائه وحكي عن التهديدات التي يتلقاها بالقتل وتفريق دمه بين القبائل، وأنه جهز كفنه وترك الوصية لأسرته وأنه على يقين أن ملك الموت يحوم حوله إلا أنه سوف يستمر في الخروج إلي عمله ولن يصيبه إلا ما كتبه الله له. وسوس الشيطان إلي ابن العم بانتهاز فرصة التهديدات وقتل الشاب حتي يكتوي قلب أبيه بنيران فراقه ويصبح هو الولد الوحيد للعائلة الصغيرة فهو قد ضاق من كثرة الحديث عن ابن عمه وأن العائلة تفضله عليه وبرغم صغر سنوات عمره إلا أنه يتقدم كبار العائلة في الأفراح والتعازي وتتمني كل فتيات القرية أن يطرق أبوابهم للزواج أما هو فلا يطقن رؤيته فقرر ان يقتله ليخلو له الطريق مستغلا فرصة تعرضه للتهديد من أهالي المتهمين بخطف الطبيب واعتقد أن أمره لن ينفضح وأن أصابع الاتهام سوف تشير إلي الأشخاص الذين يهددونه فعقد العزم علي تنفيذ خطته بقتل ابن عمه. أحتسي معه فنجان القهوة علي المقهي الذي كان يجلسان فيه وأستأذن بالأنصراف مؤقتا لاجراء مكالمة هاتفية وفي مكان منزو أتصل بأربعة من رفاق السوء وطالبهم بتجهيز الأسلحة الألية وأنتظار ابن عمه علي مقربة من منزله ليمطروه بالرصاص بمجرد مشاهدته أما هو فسوف يراقب حركاته ويستمر في السير خلفه حتي يطمئن إلي أنه متجه إلي منزله فيبلغهم بقدومه لاطلاق الرصاص عليه، صافح الشاب ابن عمه علي أمل اللقاء في صباح اليوم التالي وعلي بعد خطوات من منزله هاجمه الجناة بالأسلحة الآلية وأردوه قتيلا ولاذوا بالفرار واخترقت أصوات الرصاصات الغادرة قلب الأم الثكلي والأب المكلوم وتعالت صرخات شقيقاته اللاتي لطخن وجوههن بدمائه وأتدين جلبابه واقسمن علي الأخذ بثأره. أمر اللواء طارق نصر مدير أمن أسيوط بتشكيل فريق بحث لضبط الجاني وأكد الشهود أن القتيل شوهد آخر مرة قبل وفاته بدقائق مع ابن عمه وبعدها دوي صوت الرصاص وتم القبض علي الجاني واعترف أمام اللواء حسن سيف والعميد عصام الدسوقي رئيس مباحث المديرية بقتل ابن عمه بسبب الغيرة الشديدة وأمرت النيابة بحبسه.