هناك مغالطة نراها جميعا ونصمت عليها، إما طربا لها أو غضبا منها، وهى أن عددا من القوى السياسية يتعمد لى أعناق بعض الأحكام القضائية، ويسعى إلى توفير الأجواء اللازمة لإلباسها ثوبا سياسيا، وهى بريئة أصلا من ارتدائه. وقد زادت هذه المسألة أخيرا، خاصة بعد أحكام الإعدام التى أصدرتها جنايات المنيا، وحكم الأمور المستعجلة بحظر نشاط جماعة 6 أبريل. المغالطة وأصحابها لم يجدوا للأسف من يردعهم بصورة قانونية، وتركوا يمارسون هذه الهواية أو الغواية، ويرد عليهم أحيانا من ليسوا ذوى اختصاص، فزادت لعبة تسييس القضاء حدة، والقضاء برىء منها تماما، لأنه يصدر أحكامه بناء على حجج وبراهين ووقائع وقوانين، ولا علاقة له بعواطف أو أهواء أو أغراض أو مواءمات. ووصلنا فى النهاية إلى أن كل حكم يصدر وله علاقة بأشخاص أو حركات سياسية يجد اعتراضا من أطرافه المباشرة وغير المباشرة. وتحولت بعض القضايا إلى ساحة لتصفية الحسابات، وإثارة اللغط والبلبلة، بدلا من الرضوخ لحكم القضاء المستقل، والمضى فى الطريق المعروف للاستئناف والنقض. فلكل حكم ظروفه، والمبررات القانونية التى يستند عليها، حتى لو كانت غير مقنعة بالنسبة للكثير منا. من تابع القضايا السياسية التى صدرت فيها أحكام قانونية، سيقف مشدوها أمام بعض الظواهر الأساسية، التى أصبحت سمة مشتركة فى غالبيتها. وأهمها، توافر كمية هائلة من المعلومات المغلوطة، فعندما تسمع أن هناك حكما بالإعدام قد صدر فى حق حوالى 1400 شخص، للوهلة الأولى ستصاب بالصدمة، وتبدأ فى التشكيك فى القاضى الجليل الذى أصدر الحكم، بل وعدم الإطمئنان للصرح الكبير الذى ينتمى إليه. لكن عندما تتوافر لديك معلومات صحيحة حول عدد من حضروا الجلسة مقارنة بالهاربين، وطبيعة التهم التى استند عليها الحكم، ستجد النتيجة مختلفة. وإذا عثرت على معلومات أكثر حول نسبة البلطجية والمنتمين للإخوان والمحسوبين عليهم، من المؤكد سيكون تفهمك للحكم أكبر. لكن لأن ثقافة الصوت العالى منتشرة، وتعمد هز صورة القضاء شائعا، والفتوى بغير علم تحولت إلى وظيفة، كان من الطبيعى أن نكون أمام مشهد عبثى، يحمل القاضى المسئولية ويوفر للجانى فرصا للتنصل من جريمته، بالاستناد إلى تفسيرات سياسية لا توجد سوى فى عقل أصحابها. المشكلة أن اللغط الذى أصبح سائدا يمكن بسهولة معرفة دوافع القائمين عليه، لكن هناك جهتان يتحملان قدرا كبيرا من المسئولية فى زيادته. الأولى، القضاء نفسه، الذى لم يحرص حتى الآن على أن يكون له متحدث باسمه، أو جهة تتولى مخاطبة الرأى العام عبر نافذة إعلامية محددة، تقوم بمهمة عرض الحقائق، خاصة فى القضايا المثيرة للجدل، ويتم تقديم حيثيات الحكم بصورة سريعة، لأنها تبين أسباب الحكم فى هذه القضية أو تلك. أعلم أن الالتحام مع الرأى العام قد يؤثر سلبا على هيبة القضاء، لكن معروف أننا نعيش فى ظروف سياسية ربما تتطلب إجراءات استثنائية من هذا النوع، يمكن أن تكون مفيدة فى وقف التشكيك المتعمد. والجهة الثانية، هى بعض زملائى الإعلاميين، الذين يتباطأون فى تحرى الدقة، وينقلون وقائع منقوصة فى عدد من القضايا، يستثمرها مغرضون فى الترويج لأهدافهم السياسية، ويتخذون القضاء تكئة للتنصل من جرائمهم، وما تحدثه من خسائر بشرية ومادية. وأعتقد أن توافر المعلومات الخاصة بأى قضية محل جدل، بدلا من الاجتهادات والتكهنات، كفيل بأن يرفع عنها أى التباس يتعمد البعض تسويقه وتضخيمه. والأهم أن هناك فئة تناست أن الصحافة، كما درسنا، هى مهنة البحث عن المتاعب، وفضلت الجلوس على كراس وثيرة فى المحطات الفضائية، تفتى فى كل شىء وبأى شىء، وترفض سماع ذوى الاختصاص، حتى تتوه الحقيقة. الأخطر أن التسييس الذى تحاول بعض القوى الحزبية والحركية إلصاقه بعدد من الأحكام القضائية، ينطوى على أهداف خفية، ويؤدى إلى زيادة مساحة الفوضى فى المجتمع، ومحاولة هدم أهم الصروح التى تقوم عليها دولة القانون، والسعى إلى تحويل مصر لكيان، تتراجع فيه العدالة، وتصبح محكومة بقوانين الغابة الجائرة. كما أن جر القضاء إلى مربع التسييس، لا يرمى فقط إلى التشكيك فى أحكامه، لكن أيضا محاولة إرهاب الجالسين على منصته، أملا فى التأثير والضغط عليهم لإصدار أحكام مخففة، أو مشددة. ففى الحالة الأولى (المخففة) تبدو الاستفادة جلية. أما فى الثانية (المشددة) فيتم توظيفها للتشهير بالقضاء. وقد ظهرت هذه النتيجة فى أحكام كثيرة، أدت إلى تعريض الصرح العظيم لاتهامات باطلة. الصورة السلبية التى يسعى البعض لرسمها للقضاء عبر ما يتردد حول أحكام مسيسة، لم تحقق أهداف المروجين لها فى مصر، لكن أصداءها السلبية كانت قوية فى الخارج، حيث أدانت، بغير علم، بعض الدول والمنظمات الحقوقية أحكام الإعدام الأخيرة، وحظر نشاط 6 أبريل، معتمدة على ما وصلها من بيانات مغلوطة، وبدا كأن هناك تدخلا سياسيا لإصدارها، وكسب ، ولو مؤقتا، خطاب المظلومية الذى يتبناه هؤلاء تعاطفا خارجيا. ومع أن التعاطف لن يغير من الأمر شيئا فى الأحكام القضائية، غير أنه مردوده المعنوى والسياسى العام قد يكون سيئا، فى وقت بدأت مصر تعيد ترتيب أوراقها الخارجية، واستعادت جانبا مهما من عافيتها الإقليمية والدولية. وهو ما يستوجب الإنتباه فى التعامل مع القضايا ذات الأبعاد السياسية، لأن هناك جهات مصممة على عدم الكف عن التربص، وحرف البلاد عن مسارها الصحيح. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل