فى حين تعتبر المخلفات والقمامة كنزا مدرا للدخل فى كثير من الدول إلا أنها فى مصر تمثل كارثة بيئية وصحية لم تفلح معها أى جهود، ولم نتمكن من إعادة تدويرها بالشكل المناسب .. المشكلة لها أسباب كثيرة منها الشركات الأجنبية المتعاقدة على جمعها وإزالتها دون أن تقوم بواجبها فتركت القمامة فى الشوارع والميادين لتتحول إلى مقالب عمومية ، كما ساعدت سلوكيات الكثيرين على تفاقم المشكلة وخاصة مع إلقاء مخلفات الهدم والبناء ، مما جعل ملف النظافة من أهم الملفات التى ينتظر المواطنون أن يتخذ بشأنها الرئيس المنتظر قرارات حاسمة لتعود النظافة إلى شوارعنا ، خاصة وأن "النظافة" كانت من أهم أهداف برنامج ال100 يوم للرئيس المعزول محمد مرسى لكنها لم تشهد أى إنجاز حتى بعد مرور الأيام المائة ! المواطنون يتمنون عودة جامعى القمامة إلى سابق عهدهم عندما كانوا يجمعونها من المنازل وينقلونها إلى مقالب خاصة لفرزها وإعادة استخدامها بعيدا عن الشوارع التى صارت مرتعا للحشرات و الحيوانات ، ومصدرا للأمراض المعدية. ملف النظافة سيظل من أهم القضايا التى تشغل اهتمام المواطنين حتى يجدوا آذانا صاغية لدى المسئولين وهذا ما جعل "تحقيقات الأهرام" تفتح الملف، خاصة فى القاهرةوالجيزة اللتين تضخمت فيهما المشكلة لتصل إلى حد الكارثة رغم الجهود التى تقوم بها الأجهزة المعنية فى جمع القمامة ، كما التقت "تحقيقات الأهرام" بأحد جامعى القمامة الذين ورثوا هذه المهنة أبا عن جد قبل أن تأتى الشركات الأجنبية لتتحول شوارعنا على يديها إلى مقالب للزبالة!
عندما تتصدر أزمة "القمامة" عناوين الصحف، و تصبح مهمة جمعها والتخلص منها هى الشغل الشاغل لكل حكومة جديدة، فى بلد علم الدنيا معنى الحضارة، فمن المؤكد اننا نخطو خطوات حثيثة ..الى الوراء. حتى عام 2002 ، لم تكن هناك مشكلة حقيقية فيما يتعلق بجمع القمامة، لأنه ببساطة لم تكن هناك صناديق فى الشوارع، بل كان" الزبالون" هم من يؤدون المهمة من خلال المرور على المنازل والمحلات، كل فى المنطقة المخصصة له، فيجمعون أكياس القمامة من داخل العمارات السكنية ثم يقومون بنقلها الى أماكنهم ، لفرزها والاستفادة منها، الى أن تعاقدت الدولة مع الشركات الاجنبية التى وزعت الصناديق فى الشوارع ، فأصبح مشهد امتلائها بأكياس القمامة المتراكمة عنوانا للأزمة.. تاريخ الزبالين فى القاهرة .. قصة طويلة يحكيها لنا أحد أبناء المهنة ، الذى ورث المهنة أبا عن جد، فعاش سنوات عمره الخمسين بين همومهم ومشاكلهم ، ويحفظ عن ظهر قلب تاريخ نشأتهم وتطور نشاطهم. هو عزت نعيم مدير جمعية "روح الشباب"، التى أسسها لتقوم بالاساس بإعادة تنظيم قطاع الزبالين.. وحتى نفهم الموقف الراهن ،استرجع معنا الماضى ، ثم رسم لنا التصور المستقبلي، والترتيبات المطلوبة للاستعداد الى مرحلة ما بعد رحيل الشركات الاجنبية فى 2017 كما تنص العقود.
20 مليون طن وفقا لاحصائيات وزارة البيئة تنتج مصر سنويا 20 مليون طن من القمامة ، والتى يقصد بها مخلفات المنازل والمحلات التجارية والمنشئات العامة، واسمها العلمى "المخلفات الصلبة".. الاجزاء الحضارية من القاهرة الكبرى تنتج يوميا 14 الف طنا ، 9 الاف منها يجمعها الزبالون ويعيدون تدوير 85% منها، رغم أن العقد الرسمى بين الدولة والشركات الاجنبية يلزمها بجمع ال 14 الف طن كاملة واعادة تدوير 20% منها ، الا انه وبسبب البنود الفضفاضة والمطاطة من جانب ، وغياب رقابة هيئة النظافة والمحليات من جانب اخر، لا تقوم الشركات الاجنبية- وهما شركتان بعد ان تم فسخ التعاقد مع الثالثة- ، الا برفع 3 الاف طن فقط يوميا، ويتبقى ألفا طن بدون جمع فى المناطق العشوائية واطراف المدينة" . ويتوقع عزت نعيم ان يتم الحكم لصالح الشركة الثالثة، معللا ذلك بان العقد لا يحافظ على حق الدولة المصرية، فيقول" يكفى أن هناك بندا ينص على أن "عامل الرصد" اذا أبلغ الشركة عن تراكم قمامة ، فلها الحق ان ترفعه خلال14 يوما، وهى مدة كبيرة جدا". أصل الحكاية فى نبذة سريعة حول الآلية التى كان يتم بها التعامل مع القمامة فى القاهرة منذ عام 1920، يحكى عزت نعيم:" أصل مهنة جمع القمامة فى مصر هم من يعرفون باسم جماعة" الواحية" واصولهم تعود الى الواحات البحرية، وكانت القاهرة محدودة ومعظمها زراعات، فكان عمال البلدية يكنسون الشوارع ، بينما كان الواحية يجمعون القمامة من السكان، وكل أسرة تدفع مقابلا، ليحملوا ما جمعوه بعد ذلك على عربات الكارو ويرمونه فى منطقة صحراء بور متطرفة، ويتركون القمامة وكان اغلبها بقايا طعام ومخلفات عضوية، حتى تجف فى الهواء والشمس، ثم يحملونها مرة أخرى الى القاهرة ، ويبيعونها الى الحمامات الشعبية لتسخين المياه على القمامة المحترقة ، او لبياعى الفول لتدميسه او لافران الخبز، وظل الوضع كذلك حتى عام 1949، عندما صدر قرار بعدم استخدم القمامة فى تلك الاغراض، وبدأت الناس ترفض شراء الخبز والفول المدمس على وقود القمامة، فظهرت مشكلة امام الواحية : كيف نتصرف فى القمامة، خاصة وان المدينة بدأت تتسع احياؤها، وفى نفس الوقت لا يريدون خسارة الشهريات التى تخصص لهم من اصحاب المنازل والمحلات،فهى مصدر رزقهم، الى ان جمعت الصدفة بين جدى القادم من أسيوط هربا من الفقر، ومجموعة من الواحية، فقال لهم : انا سأخذ القمامة التى تجمعونها، وسأجلب اقاربى من اسيوط وسوهاج الذين أنهكوا من العمل فى الفلاحة ويعانون من بطش الاقطاعيين، ليساعدونى فى العمل، فدلوه على المكان الذى كانوا يلقون فيه بالقمامة لتجفيفها، وبدأوا يبنون بيوتا صغيرة من الصاج والخشب تعيش فيها الاسر الجديدة النازجة من الصعيد، والتى بدأت فى تربية الحيوانات وتحديدا الخنازير، حيث رأى جدى أنه افضل حيوان يعيش على بقايا الاكل، فيتم تسمينها وبيعها للمسيحيين والاجانب، ليصبح مصدر دخل لتلك الاسر، وتحول الواحية من جامعى القمامة الى "معلمين" يعملون كحلقة وصل بين الزبالين الجدد من الصعيد وسكان القاهرة . رحلة المطاردة يتابع نعيم فصول حكاية الزبالين فيقول" كان الزبالون يرمون ما هو غير صالح للاكل خلف "الزريبة"، ومع تطور الزمن، بدأت الناس المحيطة بالمكان تشكو ، وكانوا من الاسر التى نزحت من الصعيد لكنها لاتعمل فى القمامة. أول مكان سكن فيه أهلى كان فى عزبة الورد فى الشرابية وذلك منذ عام 1949 حتى عام 1955، وبعد الشكوى منهم، تم نقلهم الى منقطة ابو وافية فى شبرا الخيمة واستقروا بها حتى عام 1960، وتكررت الشكوى فانتقلوا الى امبابة، وكانت ارض زراعية فأجرها أهلى من أصحابها مقابل الاقامة وتربية الحيوانات، الى أن ولدت انا فى عام 1964 ،واستقرينا فى امبابة حتى عام 1970، الى ان شكانا سكان الزمالك الى المحافظ ، فتم نقلنا الى الجبل فى منشية ناصر حيث الموقع الحالى لنا. وفى تلك المرة الاخيرة تفرق الزبالون إلى أربع مجموعات، ثم أصبحنا ستة. يواصل نعيم سرد مراحل ازدهار عمل الزبالين فى ثمانينات القرن الماضى فيقول" مع التطور بدأ يظهر تجار وأصحاب مصانع يشترون من أهلى الورق والزجاج والبلاستيك والنحاس والصفيح فأصبح هناك مصدر دخل آخر الى جانب تربية الخنازير التى تتغذى على 60% من القمامة ، وبدأت الطفرة فى عام 1984 عندما قدم البنك الدولى منحة لتطوير منطقة "زبالين منشية ناصر" ومدها بالمرافق الاساسية من مياه وطرق وصرف صحي، اذ كانت حياتنا شاقة وأسقف بيوتنا من الخيش ولا توجد مياه جارية او صرف صحي، وبعد حدوث حريق ضخم اسفر عن موت 13 منا، توالت الجهات المانحة التى كلفت شركة استشارية لعمل دراسة لاحتياجات مجتمعنا، فكان أبرز ما تم انجازه تأسيس جميعة لحماية البيئة، تحصل على روث الحيونات التى نربيها، لتبيعه الى مصانع السماد ،وتستغل العائد فى عمل خدمات للمنطقة من تعليم ومحو امية وغيرها، فبدأنا نشعر بالامان،خاصة بعد أن قامت مؤسسة "فورد" الأمريكية بتقديم منحة ل" جميعة جامعى القمامة لتنمية المجتمع"، التى أسستها الكنيسة القبطية، وذلك على هيئة قروض لمن يريد عمل ورش لاعادة تدوير القمامة، مثل كسارات البلاستيك، ومكابس الورق ، ومفارم القماش، ومسابك المعادن،و مخازن الزجاج، فزاد دخل الاسر، بعد أن كانوا يبيعون المخلفات بثمن بخس، فحدث رواج، وزادت الورش، فبعد أن بدأت "فورد" ب 20 ورشة، بدأت الاسر تدخر وتؤسس ورشها الخاصة ، الى ان وصل عددها الى 750 ورشة فى منشية ناصر، و750 فى أربع مناطق اخرى تقوم باعادة تدوير 9 الاف طن يجمعها الزبالون على مستوى القاهرة الكبري. بداية المشكلة سألنا نعيم: لماذا شعر سكان القاهرة بمشكلة القمامة فى السنوات الاخيرة رغم انهم يدفعون مرتين ، مرة للزبال الذى يعمل بالحى أصلا، وأخرى على فاتورة الكهرباء، لتحصلها وزارة المالية وتدفعها للشركة الاجنبية؟ فأجاب " هناك سببان ، الاول هو أن الشركات الاجنبية عندما دخلت مصر فى عام 2002 قامت بتوزيع صناديق القمامة فى الشوارع، فاصبح الكل يرمى فى الصندوق وخارجه، بدءا من مخلفات الشقق السكنية والمحلات التجارية ومخلفات البناء والحيونات النافقة، وبرزت فى المناطق العشوائية ظاهرة " النباشين"، كما تقوم الحيوانات الضالة ببعثرة محتويات الاكياس ، وكل ذلك لم يكن يحدث من قبل لانى كنت اطلع انا واقاربى الى الشقق ونجمع القمامة، فلم يكن هناك قمامة فى الشارع، ثم جاء السبب الثانى الذى جعل "الزبال" فى ورطة ،وهو ذبح الخنازير فى عام 2009 -حوالى مليون خنزير- رغم انتفاء العلاقة بينها وبين انفلوانزا الخنازير ، فأصبح الزبالون يقومون بفرز القمامة على الرصيف قبل حملها ،حيث يترك مخلفات الطعام فى الصندوق الذى من المفترض ان تقوم الشركة الاجنبية بجمع كل ما فيه" . ويتابع نعيم :" ما زاد الطين بلة أن المنظومة بكاملها لا تنضوى على أى عدالة ، فالاجانب يجمعون اقل من 20 % من القمامة ،ولا احد يتابعهم فى هيئة النظافة أو المحليات،وفى المقابل يتحمل الزبالون العبء الحقيقي، اى بالبلدي" ناس بتخدم ماتخدش فلوس ،وناس بتاخد فلوس وما بتخدمش"، ثم يقولون ان الزبالين مستفيدين ويربحون، فهل بعد كل ذلك لا يريدوننا أن نربح، فنحن من أوجدنا المنظومة منذ البداية والدولة لم تساعدنا فى اى شيء، ولم توفر لنا اى تامين صحى او اجتماعي. المنظومة الجديدة من الان حتى عام 2017، أمامنا ثلاثة أعوام يمكن خلالها -كما يقول نعيم- ، الاستعداد لمرحلة ما بعد رحيل الشركات الاجنبية فحينها سيكون" الزبالون" هم المسؤولون بشكل كامل كما كانوا فى السابق، فيقول" ليلى اسكندر -وزيرة البيئة - تعمل على تغير المنظومة القائمة، وهى متبحرة وخبيرة فى مجال إدارة المخلفات ، ولديها رؤية تعتمد ببساطة على مبدأ " اعط العيش لخبازه"، بحيث يعود الامر لاصحابه الاصليين، والعودة للنظام القديم ،وهو تقسيم القاهرة الى احياء،وليس الى شمال وشرق وجنوب وغرب، وما نعكف عليه الان ومنذ اربع سنوات فى جمعية" روح الشباب " هو تقنين قطاع الزبالين بالكامل ويضم 165 ألف نسمة ، من خلال تأسيس شركات مسجلة فى هيئة الاستثمار، لها سجل تجارى وبطاقة ضريبية، وتأمين على العاملين،وحتى الان نجحنا فى تقنين 1280 أسرة من الزبالين ،فى كيانات رسمية بحيث أنه عندما تبدأ الدولة فى الاعلان عن مناقصات للتعاقد مع الاحياء المختلفة ،يستطيعون التقدم من خلال شركاتهم ، وحتى الان سجلنا 60 شركة، تضم الواحدة نحو 25 فرد ، وكل شركة تمتلك 30 سيارة، يتم تجهيزها من خلال وزارة الانتاج الحربي، وكل فترة نجمع مجموعة من الزبالين ونسجل لهم شركة ". الجديد كما يكشف نعيم ان 12 شركة من تلك الشركات بدأت العمل بالفعل فى أماكن لا تخدمها الشركات الاجنبية مثل الكومباوندز الجديدة كالرحاب والقطامية ، وفروع لمحلات تجارية معروفة، بالاضافة الى منطقة الخصوص فى القليوبية ، ويضيف " الدكتور على عبد الرحمن -محافظ الجيزة – وعادل لبيب -وزير التنمية المحلية- وقعا عقودا مع 8 شركات من التى سجلناها، لتقوم بجمع قمامة أحياء الدقى والعجوزة وامبابة لمدة سنة ، بعد ان نجحوا فى التفاوض مع الشركة الاجنبية على رفع يدها عن تلك الاحياء و خصم حصتها المالية، لتذهب الى الشركات الجديدة، والامر المهم اننا سنبدأ تجربة " فصل القمامة من المنبع"، حيث قام شباب الجمعية بزيارة المدارس وقصور الثقافة وغيرها من اماكن التجمعات فى المنطقة لتوعية الناس بالفكرة. وتنص العقود التى تم ابرامها مع الشركات الثمانية والتى بدأنا تنفيذها منذ بداية الشهر الجاري، على أن من يجمع القمامة له زى موحد" يونيفورم" ويرتدى القفازات، ومعه "شيكارة "يجمع بها بقايا الطعام، و" قفة" يرمى بها المخلفات الاخرى ، وتقسم السيارة التى تنقل القمامة الى جزءين احدهما مطلى باللون الاخضر للطعام، والاخر باللون الازرق لبقية القمامة، وقد قمنا خلال مارس الماضى بحملات توعية، حيث مر الشباب المتطوع من الجمعيات الاهلية بالمنطقة على السكان واصحاب المحلات لتعريفهم بفكرة" الفصل من المنبع" ، وبعد استقرار التجربة فى الجيزة سننقلها الى أحياء المقطم والمنيل، وبالنسبة لبقايا الطعام، فقد تم الاتفاق مع وزارة البيئة على تخصيص مكان فى كل حى أو سيارة لتجميع قمامة الطعام لتوريدها لاحقا لمصانع السماد ". نعيم يتمنى أن تشجع الدولة الشباب من الان على تأسيس شركات نظافة من خلال قروض الصندوق الاجتماعي،حتى اذا انتهت عقود الشركات الاجنبية، يبدأ كل حى فى التعاقد مع إحدى الشركات، سواء كان اصحابها من الزبالين أو شباب عادى ، ومن يقدم افضل سعر بافضل خدمة يفوز بالتعاقد. فى الختام سألنا عزت نعيم: متى سننعم بشوارع نظيفة ونرتاح من صداع القمامة، فأجاب متفائلا: "بالتدريج ستختفى المشكلة ، بالطبع ستستغرق التجربة الجديدة وقتا حتى يتعلم السكان ،لكن لا توجد مشكلة وسيساعد الزبالون فى الفرز، ثم يسلمون البقايا للمكان المخصص بمعرفة وزارة البيئة، ويمكن القول ان "الدنيا هتبقى زى الفل"، عندما يتم رفع الصناديق من الشوارع، ويصبح لدينا شركة مسؤولة عن جمع قمامة كل حى ، وتصبح البلدية مسؤولة عن كنس الشوارع، مثلما كان الوضع قبل دخول " الاجانب"..