أثناء نقاش علمى محتدم حول ماهية «التفكيكية» – إحدى مداخلات النقد الجديد-، قطع أحد الأساتذة الحوار ممن لم يعجبهم النقاش ولاموضوعه أصلا: لم كل هذا الجدل؟ التفكيكية يا سادة أصلها فى القرآن! وموجودة قوله تعالى :«فك رقبة»! لا تكشف الواقعة السابقة عن محض خطأ معرفى جسيم، ولا تزيد كاذب فى ربط المقدس «الثابت» بالعلم «النسبى والمتغير» فحسب، بل تكشف عن إشكالية فادحة فى بنية التفكير، واستنامة العقل الأكاديمى - فى جانب منه- إلى التصورات النمطية الجاهزة، والأدهى التفسير الميتافيزيقى للرؤى والتصورات الفكرية. هذا السياق الماضوى يمثل بيئة حاضنة للرجعية التى تعشش الآن فى الجامعة المصرية وتدفع بها دفعا للوراء. العامان الماضيان كشفا عن تغول شديد للأفكار المتخلفة داخل حقل يجب أن يجعل من العلم آلية للإجابة عن تساؤلات الواقع، وازدادت الأحوال سوءا بتسرب رهان العنف الذى تخلقه جماعة الإخوان الفاشية إلى الجامعات المصرية، واتخاذها مكانا لاستعراض القوة بعد أن فقدت الجماعة زخمها فى الشارع، وبدت الجامعة بالنسبة لها مكانا قابلا للاشتعال فى أية لحظة، ودون أى وازع من ضمير دينى قيمى أو أخلاقي. وبدت الجامعة مسرحا مفتوحا لمقامرات سياسية ولعب بمستقبل الوطن، وتعددت حوادث القتل لتزداد الجامعات اشتعالا، والاشتباكات تتوالى، وبما يضعنا أمام مأزق حقيقي، مرده إلى عوامل متعددة، تتشارك جميعها فى خلق هذه الحالة العبثية داخل الجامعة، ففضلا عن البيئة الرجعية الحاضنة لجملة من الأفكار الماضوية، والمتطرفة، هناك أيضا سياق سياسى عاجز عن التعاطى مع الأزمة وربما يبدو فى حال من التلكؤ تجاهها، أما الأخطر وهو وثيق الصلة بحالة التباطؤ المشار إليها فيتعلق بوجود عدد من القيادات الإخوانية داخل الجامعات المصرية تدير من خلف ستار حوادث العنف، أو على الأقل تمثل مظلة حامية للعنف عبر التساهل الشديد معه من جهة، وغض الطرف عنه من جهة ثانية بزعم أن لا شيء يحدث على الإطلاق! وكأن ما نراه من حوادث عنف يومى وقطع للطرق أمام بعض الجامعات، على غرار ما يحدث فى جامعات القاهرة، وعين شمس، والأزهر لا يعنى شيئا! وفى عهد الفاشية الدينية نصب البعض من أنفسهم حراسا كذبة للفضيلة المدعاة، وحاولوا التدخل فى المناهج التعليمية، إرضاء للإخوان ونفاقا لهم، كما سعت الجماعة الفاشية عبر ممثليها داخل الجامعات لحصار بعض الأساتذة فكريا، فى محاولة دنيئة لقنص البؤر الطليعية داخل الجامعة المصرية. وربما باءت هذه المحاولات بالفشل فى كثير منها، غير أنها تبقى علامة على ضيق أفق من جهة، وشاهدا على جملة من المتحولين والمتزلفين من خدم كل العصور والأنظمة من جهة ثانية. أما الأكثر كارثية فيتمثل فى محاولة خلق سياق عام يعادى العلم، ويقمع ناسه، وبما ينذر بخراب مقيم، يعد فى جوهره نتاجا لوعى وخيال قديمين بامتياز. على الدولة المصرية إذن لو ارادت ان توقف نزيف الدم المسال داخل الجامعات المصرية أن تقوم أولا بتطهير الجامعة من القيادات الممالئة للإخوان، والتى سعت لركوب موجتهم تحت المظلة الجاهزة ويصيح بها كل إخوانى نائم» أنا لست إخوانيا لكن أحترمهم»! هذه العبارة الرديئة التى يلوكها أشباه ساسة، وأنصاف مثقفين. وعلى الجامعة أيضا أن تدرك أنها أمام معركة مصيرية، قطباها الرجعية فى مقابل الحداثة التى يجب أن ينتمى إليها كل مثقف حر ومخلص لناسه وجماهير شعبه، يبغى بلدا يتقدم إلى الأمام ولا يتقهقر إلى الخلف. وفى لحظة ثورية بامتياز خاضها المصريون دفاعا عن قيم الدولة المدنية ضد كل معانى القمع والقهر والاستبداد، انحيازا إلى قيم التغيير الإيجابي، واجتثاثا لدولة الفساد والاستبداد، عبر الثورة المصرية المجيدة فى 25 يناير، و30 يونيو، كان على الجامعة المصرية أن تمثل للمصريين أملا فى التغيير، عبر خلقها بنية تنويرية حقيقية تنحاز إلى كل قيم التقدم والاستنارة والحداثة والإبداع. وربما آن الأوان لتنهض الجامعة بوصفها مصنعا للأفكار الجديدة والمبتكرة والدافعة لمجتمعها صوب عالم أكثر حرية وجمالا وعدلا وإنسانية. وتبقى إشكالية الامن داخل الجامعة إشكالية مهمة، ووثيقة الصلة باللحظة الراهنة، ويجب أن يحدث حولها توافق بين كافة عناصر العلمية التعليمية، واضعين فى الاعتبار أن عودة الحرس الجامعى ربما تهدر نضالات الأساتذة المصريين حول استقلالية الجامعة المصرية، وفى الآن نفسه بدا الأمن الإدارى عاجزا عن مواجهة العنف المتفاقم داخل الجامعات، والوصول لصيغة توافقية ليس أمرا مستحيلا وبما يحفظ للجامعة قيمها وأعرافها الأكاديمية الرصينة. وبعد أن خرجت فرنسا كسيرة من الحرب العالمية الثانية جراء ما فعله النازيون بها، جمع شارل ديجول مستشاريه، وسألهم: كيف حال الجامعة؟ فردوا بخير. قال : إذن فرنسا بخير. وها نحن نعيد سؤال أمتنا المصرية االمصيري: كيف حال الجامعة؟ والإجابة ربما لا تخفى على عقل لبيب ولا تغيب عن ذهن متابع. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله