كان النيل عند المصريين القدماء هو مركز العالم، وكان منبعه بالنسبة لهم هو بدايته، ولذا كانت قبلتهم نحو الجنوب. وكانت أساطيرهم الدينية ساحرة الدلالة حول علاقة الشعب المصري بنهر النيل الذي تم رفعه لمرتبة القداسة. أما تسمية »النيل« بهذا الاسم، فيمكن الاستدلال علي أصلها من حقيقة أن المصريين القدماء لقبوا النيل في بعض أناشيدهم بأبي الآلهة، وهو لقب مستعار من الإله »نون« رب المياه الأزلية عند المصريين القدماء (الفراعنة) والذي كان النيل ينبع منه (أدولف أرمان، ديانة مصر القديمة ، ترجمة د. عبد المنعم أبو بكر ، د.محمد أنور شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1997، ص18). ورغم أن غالبية الأنهار تكتسب اسمها من منبعها ليمتد الاسم إلي باقي مجري النهر، فإن الأمر معكوس بالنسبة لنهر النيل، فقد أطلق المصريون القدماء اسم النيل علي نهرهم المقدس، ليتوالي إطلاقه علي منابع وروافد النهر. وهذا الأمر طبيعي إلي حد بعيد، حيث كان نشوء الحضارة المصرية القديمة سابقا علي كل ما عداها، وبالتالي فإنها أعطت للأشياء أسماءها وعلي رأسها نهر النيل. وتشير إحدي نظريات تفسير نشأة الكون والخلق والآلهة عند الفراعنة، وهي نظرية الأشمونيين أو هرموبوليس، إلي أن الإله »نون« رب المياه الأزلية كان هو كل شيء وكان يحتوي علي جميع عناصر الخليقة. وعندما بدأت المياه الغامرة لكل شىء في الانحسار ظهر تل الأبدية وظهرت عليه كائنات إلهية وكان عددها ثمانية التي تعني »شمون« باللغة الهيروغليفية (جورج بوزنر، سيرج سونرون ، جان يويوت ، أ . أ . س . ادجواردز ، ف . ل . ليونيه ، جان دوريس ، معجم الحضارة المصرية القديمة ، ترجمة أمين سلامة ، مراجعة د. سيد توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، 1996 ، ص344). ولو تأملنا الكلمة »نون« فإن تحويرها إلي نيل هو أمر مرجح، خاصة أن منبع مياه النيل وفقا للفراعنة هو هذه المياه الأزلية التي كانت مصدرا لكل شىء، بما في ذلك الآلهة نفسها. ورغم أن القصور المعرفي في عصر ما قبل الأسرات في مصر القديمة، يمكن أن يكون السبب في تصور المصريين القدماء الخاص بمصدر مياه النيل الذي أرجعوه إلي الإله »نون« رب المياه الأزلية وليس إلي الأمطار التي تسقط علي منابعه الاستوائية والإثيوبية، فإن استمرار المصريين في اعتبار الإله »نون« مصدرا لمياه النيل بعد توسعهم جنوبا وإدراكهم الحسي بأنه ينبع من خارج أراضيهم، هو محاولة لتأكيد قداسة النيل بنسبه إلي الإله »نون«، وذلك حتي يتعامل المصريون مع النهر بحرص وتقديس حقيقيين باعتباره شريان حياة مصر، فضلا عن عدم تقبلهم فكرة أن شريان حياتهم أي النيل ينبع من خارج أراضيهم المقدسة.
كان المصريون القدماء يطلقون على النيل الرئيسى من أسوان إلى القاهرة، اسم «أترو -عا» وهى كلمة مصرية قديمة معناها «النهر العظيم» ومنها جاءت الكلمة المستخدمة حاليا فى اللغة العربية (الترعة) التى تطلق على الفروع الصغيرة للنهر. وكان النيل عند المصريين القدماء هو محدد الوطن والجنسية على ضوء اعتقادهم بأن منابعه هى منطقة الشلالات المطابقة لحدود مصر الحالية مع السودان. وكان الإله آمون يصرح على لسان كهنته: «إن البلد الذى يفيض فيه النيل هو مصر فكل من يشرب من النيل فى مجراه التحتانى بعد جزيرة ألفنتين فهو مصري» (اميل لودفيغ، النيل..حياة نهر، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997، ص 453). وكانت جزير ألفنتين هى آخر بلاد النوبة التى شكلت مع الوجهين البحرى والقبلى خريطة مصر منذ وحدتها كدولة منذ خمسة آلاف عام. كما وصل إلى حكم مصر رئيسان نوبيان هما الرئيس محمد نجيب، فى القرن العشرين، والمشير محمد حسين طنطاوى فى القرن الحادى والعشرين، دون أن يسأل أحد عن أصلهما العرقى فى بلد لا يعرف أى نوع من التمييز فى هذا الشأن، فإن الأسرة الرابعة والعشرين التى حكمت مصر القديمة فى أواخر العهد الفرعوني، كانت أسرة نوبية. وكان أبرز ملوكها هو »بعنخي« الذى قاد حرب الاستقلال ضد الفرس منطلقا من أقصى جنوب مصر. وإلى جانب الإله «نون» رب المياه الأزلية عند المصريين القدماء الذى كان النيل ينبع منه، يوجد عدد من الآلهة المرتبطة بالنيل، وأولها الإله «خنوم» الذى كانت تماثيله تنحت على هيئة كبش عظيم وكان مركز عبادته يقع فى جزيرة ألفنتين قبالة أسوان، كان هو المسئول وفقا للمعتقدات المصرية القديمة عن تفجر النيل من باطن الأرض من مناطق الشلالات. وكانت شعائر عبادته عبارة عن سكب المياه من جرة توضع امامه. وثانيها هو عوزير المعروف باسمه الدارج «أوزوريس»، وهو إله عالم الموتى وخصوبة الأرض والنماء والزرع ، وكان المصريون القدماء يخلطون بينه وبين النيل بما يوحى بأن النيل جزء من عوزير أو هو نفسه. وكان على من يمثل بين يدى عوزير ( أوزوريس ) إله عالم الموت ومعه قضاة الموت، أن يبرىء نفسه من الكبائر الخاصة بالنيل بقوله » إننى لم ألوث ماء النيل ولم أحبسه عن الجريان فى موسمه ولم أسد قناة« (اميل لودفيغ، النيل..حياة نهر، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997، ص 453). أما أشهر آلهة النيل فهو «هابى»، أو «حابي»، الذى كان يمثل «روح النيل وجوهره الحراكي، وكان هو فيضان المياه النابعة من نون أى رقعة المياه الأزلية المترامية الأطراف التى أقصيت عند الخليقة إلى حافة العالم والتى كان نهرها هو المجرى الدائم واهب الحياة. وكانت صلوات المصريين القدماء لذلك الإله تقول: هابى أبو الآلهة الذى يغذى ويطعم ويجلب المؤونة لمصر كلها، الذى يهب كل فرد الحياة فى اسم قرينه (الكا) ويأتى الخير فى طريقه والغذاء عند بنانه ويجلب مجيؤه البهجة لكل إنسان، إنك فريد، أنت الذى خلقت نفسك من نفسك ودون أن يعرف أى مخلوق جوهرك، غير أن كل انسان يبتهج فى اليوم الذى تخرج فيه من كهفك. وكانت الطقوس الدينية تقام كل عام عند أسوان وقرب القاهرة الحالية بقذف الكعك وحيوانات الضحية والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليها، وكذلك تماثيل الإناث لتثير إخصاب (شهوة) النيل العظيم فيفيض فى أمواج عاتية وينثر نفسه خلال المملكة معطيا الحياة للأرض(جورج بوزنر، سيرج سونرون، و جان يويوت، و أ.أ س ادجواردز ، ف. ل ليونيه، و جان دوريس، معجم الحضارة المصرية القديمة، ترجمة أمين سلامة، مراجعة د. سيد توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، القاهرة 1996، ص345، 346). وكانت هناك واحدة من الإلهات الرئيسية فى مصر ترتبط بفيضان النيل وهى الإلهة إيزيس أو عيزى أو «إيست» أو «الست» باللغة الدارجة والذى صار يطلق على أى سيدة رائدة أو قوية أو عظيمة حتى فى العصر الحديث مثل سيدة الغناء العربى أم كلثوم التى كان يطلق عليها «الست». وكان لتلك الإلهة عيد سنوى فى شهر بؤونة من كل عام - يقع فى شهر يونيو - يسمى «ليلة الدموع» فى ذكرى انهمار دموع «إيست» (إيزيس) حزنا على مصرع زوجها الإله عوزير على يد أخيه «ست» إله الشر، وتؤدى تلك الدموع الإلهية إلى حدوث الفيضان الذى يغمر أرض مصر بالمياه ويشكل سبب نماء محاصيلها وثرائها. وهناك أسطورة أخرى تربط اثنين من أشهر آلهة مصر القديمة بالفيضان، وهما هور (حورس) رب الانتقام (الثأر) والوراثة الشرعية للعرش الملكي، وهاتهور (حاتحور) إلهة الحب والجمال والطرب والموسيقى وربة الجميزة سيدة الأشجار وإلهة الحرب فى آن واحد. وتقول الأسطورة أن هاتهور التى يوجد مركز عبادتها الرئيسى فى بلدة دندرة بمحافظة قنا حاليا، كانت زوجة للإله هور الذى يوجد مركز عبادته فى إدفو بمحافظة أسوان حاليا. ولم تكن هاتهور تزور هور إلا مرة واحدة كل عام وذلك فى شهر أبيب وهو الذى يوافق النصف الأخير من يوليو والنصف الأول من أغسطس غالبا، ومع لقاء الاله هور بإلهة الحب والجمال هاتهور فيما كان المصريون يسمونه «الاجتماع الطيب» كان فيضان النيل يبدأ من «الاجتماع الطيب» بين مياه الفيضان وبين أرض مصر عقب لقاء الإلهين هور وهاتهور كان الخير والنماء يعمان أرض مصر. وقد ارتبط جزء مهم من الإبداع الأدبى للمصريين القدماء بنهر النيل، فى صورة أساطير وقصص وأشعار وأغان. وتقول أنشودة الفرح بالفيضان الموجودة فى «متون الأهرام»: من يشاهدون النيل (عوزير) فى تمام فيضانه يرتعدون (فرقا) أما الحقول فإنها تضحك وجسور النيل تغمرها المياه ومن ثم تنزل موائد الآلهة وتشرق وجوه القوم وتبتهج قلوب الآلهة.(سليم حسن ، الأدب المصرى القديم .. أدب الفراعنة ، الجزء الثانى فى الدراما والشعر وفنونه ، مطبوعات كتاب اليوم ، مؤسسة أخبار اليوم، العدد 3 ، القاهرة ، ديسمبر 1990 ، ص80) وتقول هذه الأنشودة فى موضع آخر : المجد لك أيها النيل الذى ينبع من الأرض ويحمل الخير لمصر وعندما تفيض يعم الفرح البلاد أنت تطفح فتسقى الحقول وتنعش القطعان وتمد الناس بالقوة اذا تأخرت بنعمك توقف دولاب الحياة واذا غضبت حل الذعر فى البلاد يا سيد الأسماك ومنبت القمح والشعير والذرة أنت الذى يخلق كل جميل الشباب والأولاد فرحون جذلون يحبونك أيها الملك. ( برهان الدين دلو ، حضارة مصر والعراق .. التاريخ الاقتصادى الاجتماعى الثقافى السياسى، دار الفارابى ، لبنان ، بيروت ، الطبعة الأولى، يوليو 1989 ، ص141) ويصف الفيلسوف المصرى القديم «سنيكا» فيضان النيل بإحساس شاعر فيقول : «انها لروعة الفرح أن نرى النيل يعانق الحقول مارا عليها مغطيا الأراضى المنخفضة طاويا الأودية الصغيرة تحت سطح مياهه، وتبرز المدن كجزر وسط فيضان مياه النيل، ما من حركة ممكنة عبر هذا البحر الداخلى إلا بالقوارب». ونظرا لأن منابع النيل تتعرض كل قرن أو قرنين لدورة سباعية من الجفاف الرهيب، فإن المصريين القدماء قد جعلوها محورا لبعض بردياتهم وقصصهم وأشعارهم. وهناك نص تشير خلفيته إلى أنه مرسوم ملكى من عهد الملك زوسر من الأسرة الثالثة (حوالى القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد )، يحكى عن المجاعة الناجمة عن انخفاض النيل لمدة سبع سنوات. ويقول المرسوم الذى يعد مناجاة وتضرعا من الملك زوسر للإله خنوم: «لا بأس أن أعرفك. أنا فى غم على العرش العظيم وأولئك الذين فى القصر كانت قلوبهم فى حزن من شىء عظيم الهول، مادام النيل لم يأت فى عهدى لمدة سبع سنوات، الحبوب ناقصة، جفت الفواكه، وكل شىء يأكلونه أصبح ناقصا، سرق كل رجل زميله، تحركوا دون تقدم إلى الأمام. بكى الطفل، انتظر الشباب، قلوب الكهول فى حزن. انحنت سيقانهم، قبعوا على الأرض، ثنيت أذرعهم. رجال الحاشية الملكية فى فاقة. أغلقت دور العبادة والمقاصير التى أصبحت لا تضم شيئا سوى الهواء وكل شىء أصبح فارغا». وكما هو واضح فإن كارثة الجفاف السباعى كانت مدمرة بصورة مروعة حتى لأخلاق الشعب الذى أبدع أسس ضمير الإنسانية وقواعد الأخلاق الأساسية للإنسانية بأسرها. ويضيف المرسوم فى موضع آخر : «توجد مدينة وسط المياه ومنها ينبع النيل، تسمى الفنتين. إنها بداية البداية، «بهيج الحياة» اسم مسكنها.«الكهفان» هو اسم الماء، فهما الثديان اللذان يتدفق منهما كل الأشياء الطيبة، إله النيل، هو الذى فيه يصبح صغيرا يخصب الأرض بالجماع كالذكر الثور، إلى الأنثى، يجدد نشاطه مخففا رغبته ». ويضيف المرسوم أنه بعد أن استرضى الملك الإله خنوم سيد المياه ورب الفنتين، كشف له الإله عن نفسه وكانت كلماته «أنا خنوم صانعك أنا أعرف النيل حينما تفتتح به الحقول، إيراده يعطى الحياة لكل ما يتنفس، سيتدفق النيل من أجلك، دون توقف أو تهاون من أجل أى أرض، ستنمو النباتات منحنية تحت الفاكهة، المؤمنون سيحققون ما تتمناه قلوبهم ستذهب سنوات القحط ويصح المحصول ستتلألأ الضفاف والقناعة ستحل فى قلوبهم أكثر من تلك التى كانت فى السابق».( تحرير جيمس ريتشارد ، نصوص الشرق الأدنى القديمة المتعلقة بالعهد القديم ، الجزء الأول ، وزارة الثقافة ، هيئة الآثار ، مشروع المائة كتاب ، القاهرة ، 1987 ، ص115). وكان ذلك الحضور القوى لنهر النيل فى أدب المصريين القدماء وأساطيرهم، تعبيرا عن المكانة الحاكمة للنهر فى حياة مصر وشعبها ومحاصيلها وثروتها الحيوانية، وتجسيدا لاحترامهم وتقديسهم المياه مصدرا للحياة.. لأنه باختصار أحد الأسرار العظمى لحياة مصر شعبا ودولة، ومن يتعرض لحقوق مصر فيه فإنه يحاول كسر مفتاح الحياة ولا يترك لمصر مجالا إلا أن تنتفض للدفاع عن حقوقها بكل ميراثها الحضارى وبأس شعبها العظيم. لمزيد من مقالات أحمد السيد النجار