يٌحكى فى إحدى القصص الرمزية فى البرازيل أن أسدين تمكنا من الفرار من حديقة الحيوان. فى غضون ساعات سقط الأول فى أيدى قوات الشرطة، فى حين استغرقت رحلة البحث عن الأسد الثانى شهرين حتى أٌلقى القبض عليه. عاد الأسد إلى حديقة الحيوان ممتلئا منتشيا، وماإن إلتقى الأسد الآخر حتى دار بينهما الحوار التالي: كيف سقطت سريعا؟ اختبئت خلف مجموعة من الأشجار، وما إن شعرت بالجوع خرجت أبحث عن صيد ألتهمه فهرع الناس فى الشوارع، وتمكنت الشرطة من القبض على. وماذا عنك بعد هذه الغيبة الطويلة؟ استطعت التسلل إلى إحدى المصالح الحكومية. اختبئت عن الأعين، وتعودت كل بضعة أيام أن التهم موظفا دون أن يشعر أحد بوجودى. لماذا سقطت إذن؟ وقعت فى خطأ كبير عندما التهمت «عامل البوفيه». فى هذه القصة الطريفة عدة ملاحظات يعرفها جيدا دارسو الإدارة العامة. البيروقراطية المتكلسة. المصالح الحكومية تعج بالموظفين الذى يزيدون على حاجة العمل، ولا يؤدى اختفاء أحدهم إلى لفت الأنظار أو الشعور بالنقص الإدارى باستثناء «عامل البوفيه» - الشخص المحوري، الذى يطلبه الجميع، لا يستغنى عنه ديوان حكومي: يقدم المشروبات، ويقضى الطلبات، هو مفتاح الفساد أحيانا، كاتم الأسرار، وحامل الحقيبة. يظل فى مكانه سنوات، قد ينتقل الموظف من مكان لآخر، ولكن يبدأ «عامل البوفيه» العمل فى سن صغيرة، وربما يظل فى مكانه حتى بلوغ سن التقاعد. البيروقراطية - المصطلح الذى يٌطلق علميا على الهيئات الحكومية التى تقوم بتنفيذ المشروعات الحكومية، وتوزيع الخدمات والمنافع العامة، يرادف أحيانا فى الأذهان جملة من المعانى السلبية: الروتين، الجمود، غياب المبادرة، الفساد، المحسوبية. يوجد فى مصر ما يقرب من سبعة ملايين موظف، يفوق عددهم عدد الموظفين فى الهيئات الفيدرالية الأمريكية، وكذا حجم الجهاز الإدارى فى أى ديمقراطية غربية، يختارون «الميري»، الوظيفة المضمونة حتى لو كان عائدها محدوداً، ويحتفظون لأنفسهم بذاتية خاصة. الصالح العام هو ما يفهمونه، وهم لا يشكلون «خدمة مدنية» بالمعنى الغربي، بل يتمتعون بهيبة وسلطة تجعلهم «ممثلين» للحكومة، والوسيط الحقيقى بينها وبين المواطن. انتقد رؤساء مصر جميعا فى خطبهم العامة- «البيروقراطية» بعد ثورة 1952م. حملها الرئيس عبد الناصر مسئولية إفشال السياسات الاشتراكية، ورأى الرئيس السادات أنها حجر عثرة أمام الانفتاح الاقتصادي، فى حين اتهمها الرئيس مبارك بأنها تقف ضد الإصلاح الاقتصادي، أما الرئيس مرسى فاختزل المشهد فى «الموظف» الذى يتقاضى عشرين جنيها لقطع الكهرباء. وبرغم كل ذلك تشير الاحصاءات إلى أن الجهاز الإدارى لم يشهد تقليصا لحجمه فى أى فترة من الفترات، بل تمدد عددا ونفوذا فى أوج سياسات الإصلاح الاقتصادى حتى صارت الرواتب تلتهم ربع الموازنة العامة تقريبا. وعقب ثورة 25 يناير جرى تعيين أعداد كبيرة من الموظفين فى مختلف القطاعات دون حاجة العمل إليهم، فقط على سبيل الترضية والإرضاء، واستمرت الحكومة فى زيادة رواتب الموظفين، وتسديد حوافزهم، ومنحهم الأرباح حتى لو كانت القطاعات التى يعملون بها خاسرة أو لم تحقق مكاسب. الجهاز الإدارى فى مصر رغم مثالبه - حافظ على كيان الدولة فى لحظات التحول السياسي، وكم كان لافتا للباحثين الغربيين أن البيروقراطية لم تتأثر بسقوط نظامين فى غضون ثلاث سنوات، واستطاعت أن تدير دولاب الحياة اليومية دون أزمات كبرى. بيروقراطية مصر هى أملها فى التنمية، وتنفيذ سياسات اجتماعية إصلاحية، وتطوير نوعية الحياة، لكن كل ذلك لن يتحقق دون إصلاح هذا الجهاز. هناك عدة برامج تبنتها البرازيل للتعامل مع الجهاز البيروقراطى (عدد الموظفين فيه نصف مليون تقريبا على المستوى الفيدرالى) حتى لاتتحقق القصة الرمزية، ويصبح مرتعا للأسود (تعبيرا عن الإهمال الجسيم) التى تتغذى على الموظفين محدودى الكفاءة. عمدت إلى تخفيض أعداد الموظفين، ثم تركت المكاتب الحكومية تقدم خدماتها كالمعتاد، لكنها انشأت- إلى جوارها- عدة مراكز فى «ساو باولو» يُطلق عليها باللغة البرتغالية «مراكز توفير الوقت» تقدم نفس الخدمات التى تقدمها الجهات الحكومية، لكن تقوم بتجميعها فى مكان واحد، ويتدرب فيها الموظفون على مراعاة مبادئ الإدارة الرشيدة: الشفافية، تحقيق رضاء المستفيدين بصرف النظر عن مركزهم الاجتماعى، الحد من المعاملات الورقية، مراعاة السرعة فى الأداء، الخ. وبمرور الوقت جذبت هذه المراكز اهتمام الجمهور، والمشتغلين بالتنمية على السواء، واللافت أنها أسهمت فى عودة الروح إلى المكاتب الحكومية التى تيبست أطرافها عندما شعر الموظفون بداخلها بأن أقرانهم فى «مراكز توفير الوقت» يضعونهم فى مقارنة قاسية أمام المواطن. إذا كان من الصعب- فى مصر- تبنى سياسات تخفيض أعداد الموظفين فى الجهاز الحكومي، فليس من الصعب التفكير فى إعادة توجيه قطاع من الموظفين إلى مراكز تنشأ على غرار التجربة البرازيلية بهدف رفع كفاءة الجهاز الإدارى، وتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة من شفافية، سرعة فى الأداء، وكفاءة فى التنفيذ، مما يشكل فى ذاته منافسة داخلية، واستنهاضا لهمة دولة الموظفين. لمزيد من مقالات سامح فوزي