ليس خروجا عن سياق المشهد الراهن أن أقول: إن أزمة مصر ليست فقط مجرد أزمة سياسية وإنما هي أزمة إدارة في المقام الأول. والدليل علي ذلك أنه عندما قامت علي شئون العملية الانتخابية الأخيرة منظومة إدارية متكاملة ومتناغمة من الجيش والشرطة والقضاء نعمت مصر بعرس ديمقراطي غير مسبوق مما يؤكد إن جانبا كبيرا من أسباب الاحتقان المتجذر في الشارع المصري منذ سنوات لا يرتبط فقط بغياب الديمقراطية- رغم أهميتها وضرورتها- وإنما هو مرتبط أساسا بعجز الجهاز الإداري للدولة المصرية عن إشعار المواطن بآدميته وكرامته وإمكان حصوله علي حقوقه المشروعة دون عناء! إن الجهاز الإداري في مصر عنوان فاضح للبيروقراطية.. ومن ثم فإن التخلص من البيروقراطية يشكل خطوة ضرورية وحتمية لبدء مسيرة الإصلاح والتقدم والحداثة. والحقيقة أن البيروقراطية هي الأم الطبيعية للروتين, وقد نشأت البيروقراطية مع بدء نشوء الدولة الحديثة, ويقال أنها ذكرت للمرة الأولي علي لسان الاقتصادي الفرنسي فينسان دي جورناي صاحب الشعار الاقتصادي الشهير.. حرية العمل وحرية التصرف. وقد نشأت كلمة البيروقراطية لكي تقدم وصفا موجزا عن: عالم كامل من الأوراق دون اكتراث بالمسئولية.. وبطء الإجراءات.. بل والطغيان والتعسف في بعض الأحيان. ونحن إذا توجهنا لأي داعية فاضل وسألناه عن تعريفه للخطيئة فإن جوابه لن يخرج عن هذه العبارة الموجزة الخطيئة هي أي شيء لا أرضاه.. وكذلك الحال إذا توجهنا إلي أي شخص عادي في مصر وسألناه عن البيروقراطية فإن إجابته لن تخرج عن إطار هذه العبارة الموجزة: البيروقراطية شيء لا أرضاه لأنها فوق طاقة الصبر والاحتمال. وفي اعتقادي أنه لا يوجد مواطن مصري دخل في علاقة مباشرة مع الأجهزة الإدارية دون أن يوجه لها انتقادا.. بل وفي أغلب الأحيان يلعنها. ومن هنا فليس غريبا ولا عجيبا أن يترحم بعض الناس علي أيام ما قبل نشوء الدولة الحديثة.. ففي المجتمعات القديمة المبنية علي الأسرة أو القبيلة لم تكن توجد أي هيئة يمكن مقارنتها بما نسميه بالمكاتب.. فالناس كانوا ينفذون أوامر شفهية أو عادات متبعة أكثر مما ينفذون قوانين موضوعية.. وكانت الاتصالات تتم مباشرة بين من يصدر الأمر, ومن يتولي تنفيذه! وليس سرا أن السبب في استشراء البيروقراطية يرجع إلي تضخم المرض الوظيفي وبالتالي فإنه كلما يزاد عدد الهيئات وتتزايد أعداد الموظفين يزداد عدد الرؤساء, والمرءوسين مما يؤدي إلي تعقيد دورة العمل, وبالتالي تقنين الإجراءات الروتينية المعقدة. وغدا نواصل الحديث خير الكلام: أسوأ العيوب أن ترصد عيوب غيرك وتتجاهل عيوبك! [email protected] المزيد من أعمدة مرسى عطا الله