من الممكن مؤقتاً صرف النظر عن معايير تقويم الثورات أي مدي نجاحها أو تعثرها أو فشلها في تحقيق أهدافها، خاصة أن هذه المعايير تختلف وفقاً لطبيعة الثورات والعصور التي وقعت فيها وكذلك التقاليد الإيديولوجية والفكرية والسياسية، التي استلهمتها واستندت إليها كمرجعية، وذلك لا يعني بالتأكيد عدم أهمية هذه المعايير أو تجاهل قيمتها النظرية والمعرفية بل يعني بصورة أو بأخري الاقتراب من معايير ملموسة ومرئية وتمتاز بالطابع العملي الواقعي الذي يمكن ملاحظته ومشاهدته. والمعيار المقصود هنا هو نصيب قريتي. كمثال يمكن تطبيقه علي جميع القري الممتدة بعمق الوادي والدلتا- من الثورة والثروة ومدي امتداد رياح التغيير إلي وجه الحياة في هذه القرية القابعة في عمق الوادي بصعيد مصر الأوسط. في عام 1952 وبقيام ثورة 23 يوليو تلقت هذه القرية خبر قيام الثورة وطرد الملك وإنهاء الملكية وإعلان الجمهورية بقدر كبير من الاستبشار والترقب، وكان ثوار يوليو عند حسن ظن أهالي هذه القرية البسطاء، وإن هي إلا بضعة أشهر حتي توافدت علي هذه القرية الأنباء الحسنة التي طالما انتظروها طويلاً، ففي شهر سبتمبر من عام 1952 افتتحت أول مدرسة ابتدائية في القرية بعد أن كان «الكتاب» هو الطريق لمن يريدون استكمال رحلة تعليمهم أو بدئها، اتخذت هذه المدرسة من أحد المنازل مقراً لها، ورغم ذلك كان هذا التغيير البسيط، عميقاً في تأثيره مع الزمن، حيث وفد أبناء جيلي في القرية لتلقي تعليمهم في هذه المدرسة، وشهدت القرية حراكاً اجتماعياً ومدنياً، أفضي مع الزمن إلي تشكل فئة من المتعلمين والخريجين في مختلف التخصصات، والتحق العديد منهم بوظائف في جهاز الدولة التعليمي أو الإداري ومن بينهم كاتب هذه السطور، استفاد أبناء هذه القرية من مجانية التعليم في كل مراحله وارتادوا طرقاً أفضت بهم إلي أنماط جديدة للحياة والترقي بعيدة عن نمط الحياة الذي قاسها آباؤهم وأجدادهم في ظل الجمود والطبقية التي حكمت العلاقات الاجتماعية في الريف المصري. مثلت هذه المدرسة في تاريخ القرية همزة الوصل بين الريف والمدنية، عبر أولئك الوافدين إليها للتدريس فيها، وأوجدت تطلعات جديدة لدي الأهالي عبر الرغبة في تعليم أبنائهم وتجنيبهم المصير البائس الذي اعترض حياتهم، كانت هذه المدرسة بداية نهاية عزلة الريف وانغلاقه علي نفسه وانفتاحه علي المدينة. في موجات الإصلاح الزراعي الأول والثاني كان لبعض أبناء هذه القرية نصيب من تلك الأراضي، التي تم توزيعها وتجاوزت الحد الأقصي للتملك، وتحول هؤلاء من مجرد أجراء ومعدمين إلي منتفعين ومالكين لبضعة أفدنة يقومون بزراعتها وفلاحتها ويقيمون أودهم وأود أسرهم من عائدها ومحاصيلها، وكانت تلك أيضاً نقلة نوعية في حياة أولئك المستفيدين من قوانين الإصلاح الزراعي وتعمق انتماءهم للثورة وتعلقهم بها لإنهاء الظلم التاريخي الواقع عليهم، لقد أصبحوا مواطنين كما كان الزعيم الراحل عبد الناصر يخاطبهم ويطالبهم برفع رءوسهم. أصبح للثورة آنذاك مرتكزات وقواعد اجتماعية في عمق الريف المصري، وفي وعي ووجدان المواطنين، الذين أنصفتهم الثورة وردت إليهم كرامتهم المفقودة، وأمنت لهم مصادر الرزق والتعليم لهم ولأولادهم، ذلك أن التغيير بعد ثورة 1952 لم يقف عند قمة النظام السياسي بل امتد إلي النظام الاقتصادي الاجتماعي وإعادة توزيع موارد الثروة المحدودة في ذلك الوقت، الثروة ليس بمعني المال بل بمعني حل المشكلات الإنسانية. عرف أهالي القرية ولأول مرة في تاريخهم - الطريق إلي المياه النقية والنظيفة الصالحة للشرب، حيث تم توصيل هذه المياه النقية عبر محطة مياه مقامة في قرية مجاورة وتوقف الأهالي عن الشرب من الترع والقنوات والآبار، وقد اقترن ذلك بإقامة الوحدات الصحية في القري الكبيرة المجاورة. كان لهذه التطورات الثلاثة ورغم بساطتها - في حياة القرية مفعولاً كبيراً وتأثيراً أكبر في حياة هذه القرية وطبيعة العلاقات فيها ومستقبلها. منذ ما يزيد علي السنوات الثلاث، أي منذ ثورة 25 يناير عام 2011 وحتي الآن ماذا كان نصيب هذه القرية؟ لقد اكتفت القرية بتتبع مسار الثورة في موجاتها المتعاقبة عبر شاشات التليفزيون تعلقت قلوبهم بالثورة والأمل في موجة أخري من التغيير تستكمل ما سبقها في عملية تاريخية لتغيير وجه الحياة في القرية المصرية. يعي أهالي القرية رغم بساطة التعليم والثقافة طبيعة الثورة المصرية في 25 يناير عام 2011 فهم لا يطمحون إلي أن تأخذ الثورة من الأغنياء لتعطي الفقراء كما فعلت ثورة 1952 ذلك أنهم يعلمون طبيعة العصر والظروف التي قد لا تسمح بذلك ولكنهم يطمحون في الحدود الدنية لشروط حياة صحية وآدمية وترجمة ذلك في امتداد شبكات الصرف الصحي إلي القري وامتداد الخدمة الطبية والصحية إلي قراهم بدلاً من اللجوء إلي المستشفيات الجامعية في أسيوط وغيرها من المدن وكذلك رصف الشوارع والطرق ووضع نظام للتخلص من القمامة بدلاً من إلقائها في مجري النهر وغيره من القنوات المائية المارة بقراهم، ويطمحون كذلك إلي اهتمام الدولة بالمشروعات الريفية والزراعية الصغيرة التي تؤمن للشباب أعمالاً وأجوراً وتؤمن للمنتجين مصادر للرزق مضمونة. هؤلاء الأهالي يتعاطفون مع الثورة ويعلقون آمالهم عليها ويتطلعون إلي اليوم الذي تتمكن فيه الثورة من تحقيق العدالة الاجتماعية ولكنهم يرون ومعهم كل الحق أن معيار نجاح الثورة والموجات الثورية التي أعقبتها هو وصول ثمار الثورة ونتائجها إلي الريف وتمكنها من تغيير وجه الحياة فيه وتوفير الكرامة ضد العوز والفقر والحرمان لجميع أبناء الريف و دون ذلك سوف تظل الثورة في نظرهم مجرد هوجة في المدينة وبلغة هذه الأيام افتراضية علي شاشات التليفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي. ولا يعني ذلك من قريب أو بعيد قياس الحاضر علي الماضي أو قياس ثورة 25 يناير علي ثورة 23 يوليو، فلكل ثورة طبيعتها وعصرها وروحها رغم أن القاسم المشترك في كل الثورات هو تغيير شكل الحياة نحو الأفضل. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد