بحلول الذكرى الحادية والعشرين لرحيل المفكر الموسوعي " الفلتة " "جمال حمدان" صاحب " شخصية مصر" ، تحدث شقيقه اللواء " عبد العظيم حمدان " ل"الأهرام". وفتح في حوار خاص خزانة أسراره وذكرياته . لن نعيد ما سبق أن قاله بخصوص ملابسات رحيل أخيه الغامضة فهى مذكورة فى أكثر من موضع من هذا الملف ,بل سننتهز فرصة وجود شقيقه معنا لنعرف أكثر عن ذلك الشخص الذى كان يسمى جمال حمدان. ماذا يميز شخصية جمال ؟ أخي جمال كان شخصية جميلة جدا ,نشيطا ذكيا ، سريع البديهة ، وصاحب نكتة ، ويلعب كرة القدم واليوجا .وقد ظهر نبوغه عندما التحق في المدرسة التوفيقية الثانوية، حيث وجد جوا مختلفا : مجموعة خطابة ، ومجموعة مسرحية ، وجماعة شعر.. إلخ .وكان عضوا في كل هذه الجماعات. وكان يكتب جريدة الحائط كل يوم بيده.وظهر حبه لرسم الخرائط في هذه المرحلة.وعندما لاحظ مدير المدرسة نشاطه هذا ، قال له: " يا جمال إني أتوقع لك مستقبلا باهرا". وحصل على الترتيب السادس على مستوى القطر المصري كله في شهادة " التوجيهية" .وكان متاحا أمامه كل كليات القمة . لكنه اختار كلية الآداب قسم الجغرافيا . لأنه كان محدد الهدف.وعندما التحق بكلية الآداب كان يذهب يوميا لكي ينهل من مكتبة الكلية .وكان المفكر الراحل محمود أمين العالم أمينا لها في ذلك الوقت . وعندما أنهى جمال دراسته الجامعية بعد حصوله على امتياز مع مرتبة شرف، أرسلته الدولة لبعثة إلى انجلترا لمدة 5 سنوات . تظل المرأة في حياة جمال حمدان لغزا, خصوصا أنه لم يتزوج .. هل كانت في حياته قصة حب ؟ في أثناء دراسته بجامعة "ريدنج" ببريطانيا بين عامي 1948 و 1953 زاملته في التخصص نفسه فتاة إنجليزية تسمى " فيلما". و كانت أيضا تعمل سكرتيرة لمشرفه العلمي البروفسير" ميللر " . وجمعتهما قصة حب مدة السنوات الخمس. وكانا يتنزهان في إجازة عطلة الأسبوع بالذهاب الى لندن .كان كل همهما أن يذهبا إلى " سور الكتب القديمة " هناك ليقتنيا أمهات الكتب بأرخص الأسعار. وكان جمال يرسل بخطابات لأخيه ليقول له بفرح انه اشترى الكتاب المهم الفلاني ببنسات قليلة . كما كان يرسل صورا له تجمعه ب " فيلما " .وخطابات أخي جمال من لندن ، نشرها الكاتب الراحل غالي شكري في مجلة" القاهرة". ولكن كيف انتهت قصة الحب هذه؟ أنهى أخي جمال رسالته للدكتوراه عن" فلسفة الجغرافيا" وهو التخصص الذي حصل 6 فقط على الدكتوراه فيه حينها . وقد طلب منه "ميللر" أن يعمل معه في انجلترا أستاذا مساعد، بالمرتب الذي يريده . إلا أن أخي جمال اعتذر له قائلا إنه ينبغي عليه أن يعود إلى مصر .وصممت "فيلما" أن يمكث جمال في انجلترا، ولا يغادرها ، فرد عليها أنه لا يستطيع مغادرة بلده ، طالبا منها أن تصحبه إلى مصر، ولكنها قالت له : اذهب أنت ، ودعني أفكر. لم تأت فيلما و قررهو ألا يتزوج . أو لنقل انه تزوج العلم . ألم تلح عليه الأسرة في مسألة زواجه؟ أخي عبد الحميد كان متزوجا من فرنسية متخصصة في علم المصريات. وأتيا في إجازة إلى مصر نحو 4 أشهر .واصطحبا معهما زميلة فرنسية في التخصص نفسه . وكانوا يتقابلون مع جمال كل يوم. وكان عبد الحميد قد أوصى زوجته بأن تجد عروسا لجمال، فرشّحت زميلتها العاشقة لجمال من كتاباته.وقبيل سفر عبد الحميد وزوجته، سأل جمال عن رأيه في الزميلة الفرنسية. فأجابه : من أجل ماذا ؟ فقال عبد الحميد: من أجل الزواج، فردّ بالرفض. بماذا تفسر استقالته من الجامعة واعتزاله التدريس على هذا النحو ؟ ذات يوم عندما كنت أزوره ، طلب مني توصيل أحد الأظرف الصفراء لوزارة الثقافة ، وكان داخله أول كتبه " دراسات في العالم العربي" وسلمته لوزارة الثقافة .و بعدها بستة أشهر ، قرأت في «الأهرام» خبرا يقول" فوز جمال حمدان بجائزة الدولة التشجيعية في العلم الاجتماعية " عام 59 بتوقيع الوزير كمال الدين حسين . وكان هذا هو أول كتاب يكتبه في حياته .وبعد ذلك بدأ جمال في تأليف كتب عن مصر ، وعن قناة السويس وعن البترول، وعن جغرافية المدن . وكان يكتب إهداءات كتبه لأساتذته ، ومنهم د. محمد عوض محمد ، وعباس عمار فبدأ زملاء له يغيرون منه ، وتساءلوا ساخرين : لماذا تكتب كتبا خارج تخصصك " الجغرافيا "؟. هكذا عندما بدأ جمال في التأليف في أمور خارج نطاق تخصصه، بدأ الحقد يدب في نفوس زملائه وأساتذته. وأذكر أنه قال ذات مرة : لو استطعت أن أكتب على باب شقتي " ممنوع دخول الجغرافيين لفعلت " .و جلس في بيته من 61 وحتى 63 للإعراض عن الأحقاد والتفاهات ، ثم استقال نهائيا ، وتم رفض الاستقالة ، وتفرّغ للكتابة ، وهكذا تفرّغ نحو 10 سنوات لتأليف كتاب واحد هو " شخصية مصر " . حقا .. ترك الجامعة في هذا المناخ وكي يتفرغ لمؤلفاته . برأيك لماذا لم يسافر د. جمال إلى الخليج في زمن الهجرة إلى النفط ، لا سيما أنه تلقى عروضا كثيرة مغرية ؟ فور عودته من الخارج عرضت عليه وزارة التعليم العالي العمل في اليونسكو بباريس، إلا أنه اعتذر. وجاءه الى منزله " عبد السلام جلود" مبعوثا من القذافي عارضا عليه أن يقوم بإنشاء وزارة للتعليم العالي في ليبيا مقابل اي مبلغ يريد، فرفض.وقد زاره ذات مرة الأستاذ محمد حسنين هيكل ، وأخبره بأن لديه عرضا بأن يتولى رئاسة جامعة الكويت، وقد ترك له الأمير تحديد المبلغ الذي يريد. مع عرض مبدئي ب 25 ألف دولار شهريا ، فرفض أيضا .وحقا كان جمال لا يقبل أي مباهج في الحياة . وعندما حصل على جائزة التقدم العلمي من الكويت في عام 1988. طلب منى توزيع قيمة الجائزة (أكثر من 11 ألف دولار) على إخوته وأبنائهم ، وعندما طلبت منه أن يستبقي مبلغا البنك لشراء ما يحتاجه من كتب ودوريات عالمية، رفض استبقاء أي مليم . هل كان الزهد من طبيعته ؟ رفض كل ما أرسلته له من أجهزة كهربائية. لم يقتن سيارة أو تليفزيون أو حتى ثلاجة .وعندما أردت ذات مرة أن أحتفل أنا وإخوته بعيد ميلاده ، وأحضرنا التورتة والبط، رفض أخذ أي شيء، وطلب من الخادم أن يوزع الطعام على البوابين، وكان يقول لنا : ما عندي ستأكلونه ولا أريد كلاما كثيرا .وعندما شكوت لأحمد بهاء الدين ما كان يفعله جمال معي من رفض كل شيء أقدمه له، حذّرني بهاء الدين من الضغط على جمال ، مؤكدا أن جمال أرسله الله برسالة من أجل مصر والمصريين ، ولا يجب ان نخرجه عما يقوم به .