هناك اشخاص وكيانات سيرتهم في الحياة تشبه النكتة، إذا طالت سخفت وضاع تأثيرها.. وهناك رموز وكيانات ثقافية تشبه الملحمة لا يمكن اختصارها في كلمات قليلة.. وبالتأكيد من أهم هذه الرموز والكيانات، المسرح القومى المصرى، الذى مازال مغلقا ينتظر الانتهاء من ترميمه.. وقد أعلن وزير الثقافة د. صابر عرب قرب افتتاحه ربما في أول يوليو القادم.. نقول ربما لأن الوعود بإصلاح وإعادة تشغيل المسرح القومى قديمة ترجع إلى نفس يوم احتراقه عندما ذهب مجموعة من الفنانين في عهد وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى وجلسوا عند أطلال المسرح يتلقون العزاء في الشارع في مشهد مبكٍ ومضحك في نفس الوقت.. مشهد ينتمى إلى الكوميديا السوداء.. أو ربما إلى فن العبث.. وفي غياب ذلك الصرح الفنى العظيم يجيء كتاب الباحث د. عمرو دوارة بعنوان "حكاية المسرح القومى.. منارة الفكر والإبداع" ليحمل اهمية مزدوجة.. أهمية الكتاب كمرجع علمى مهم في ظل قلة أو لنقل ندرة المراجع التى تناولت تاريخ وعروض المسرح القومى.. ولعل الكتاب بفصوله العشرة يعتبر المرجع الأول من نوعه بهذا القدر من التوثيق للتفاصيل الكثيرة المهمة.. أما الأهمية الثانية للكتاب فهى صدوره فى ظل غياب دور المسرح القومى، ونقصد بالطبع مبناه بحديقة الأزبكية وأيضا نوعية العروض الراقية المميزة التى كانت تنتج وتقدم على خشبته.. وكأنما يقدم د. دوارة رسالة نقدية تحمل من العتاب واللوم مثلما تحمل من حجم المعلومات التاريخية.. يقول الباحث في كتابه: " المتتبع لمسيرة المسرح العربى بصفة عامة والمسرح المصرى بصفة خاصة يمكنه بسهولة التأكيد على حقيقة هامة وهى أن فرقة المسرح القومى ظلت خلال مراحل كثيرة تمثل حائط الصد الأقوى في مواجهة مراحل السقوط والانهيار وموجات المسرح التجارى والابتذال، ومن خلالها تم تقديم روائع الأدب المسرحى العالمى والعربى، كما تم فتح نوافذ جديدة على ثقافات العالم بالشرق والغرب، وتقديم مدارس فكرية جديدة ومناهج مسرحية حديثة لتخريج دفعات متتالية تحرص على المحافظة على التقاليد المسرحية بكل الدقة والالتزام". يتكون الكتاب من عشرة فصول بخلاف المقدمة، ويتناول الفصل الأول نظرة تاريخية والفصل الثانى مخصص لمبنى المسرح القومى، والفصل الثالث يلقى الضوء على الفرقة نفسها ومراحلها المختلفة.. أما الفصل الرابع فقد خصصه لسير الأساتذة الذين تولوا إدارة المسرح، والخامس لمؤلفى عروض الفرقة، والسادس للمخرجين والسابع لأعضاء ونجوم الفرقة، والثامن لأهم العروض والعلامات المضيئة، والتاسع يروى بأسلوب أدبى مشوق مواقف الباحث والمخرج عمرو دوارة وذكرياته الخاصة مع المكان ورموزه.. واخيرا يضم الفصل العاشر قائمة العروض من عام 1935 وحتى 2013.. ولعل الرائع في ذلك الكتاب أنه لا يترك تفصيلة مهمة وفي نفس الوقت لا يطيل الشرح والإسهاب، بل يقدم المعلومة بلغة بسيطة تناسب القارئ غير المتخصص، ويختصر في أقل من 400 صفحة حكاية مثيرة وجذابة لأهم صرح مسرحى وثقافى في حياتنا المعاصرة وهو المسرح القومى.. وبالتأكيد هو مجهود يستحق الإشادة والتوقف والتحليل أكثر من مرة، كما انه إصدار يحسب للهيئة العامة لقصور الثقافة التى تولت نشره، ويعد من إنجازات تلك المرحلة الصعبة والتى يندر فيها بحق أن تجد انجازا حقيقيا على مستوى الثقافة.