الكبوة التى تمر بها مصر منذ بضع سنوات، يخبرنا التاريخ أنها إلى زوال، وأن مصر القوية سوف تنهض من كبوتها، لتأخذ دورها الريادى والقيادى الذى اختاره لها التاريخ دائما. والدليل على ذلك الحوار العبقرى الذى جاء فى رائعة أديبنا توفيق الحكيم »عودة الروح«، بين مسيو فوكيه، عالم الآثار الفرنسي، ومستر بلاك، مفتش الرى الإنجليزي، فى عزبة الثرى المصري، وهما ينظران إلى نفر من الفلاحين يحملون الفئوس والمناجل ويزرعون ويحصدون فى الأرض، حيث يخاطب عالم الآثار الفرنسى صديقه المفتش الإنجليزى قائلا:» إن هؤلاء الجهلاء يامستر بلاك أعلم منا! إن هذا الشعب الذى تحسبه جاهلا«.ليعلم أشياء كثيرة، ولكنه يعلمها بقلبه لابعقله، إن الحكمة العليا فى دمه ولايعلم، والقوة فى نفسه ولايعلم، هذا شعب قديم، جيء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجارب ومعرفة، رسب بعضها فوق بعض، وهو لايدري! نعم هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظات حرجة، تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجارب، فتسعفه، وهو لايعلم من أين جاءته، وهذا مايفسر لنا نحن الأوروبيين تلك اللحظات من التاريخ التى ترى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة فى قليل من الوقت، وتأتى بأعمال عجاب فى طرفة عين، فكيف تستطيع ذلك إن لم تكن هى تجارب الماضى الراسية قد صارت فى نفسها مصير الغريزة، تدفعها إلى الصواب، وتسعفها فى الأوقات الحرجة وهى لاتدري، لاتظن يامستر بلاك أن هذه الآلاف من السنين التى هى ماضى مصر، قد انطوت كالحلم، ولم تترك أثرا فى هؤلاء الأحفاد، أين إذن قانون الوراثة الذى يصدق حتى على الجماد؟ ولئن كانت الأرض والجبال إن هى إلا وراثة طبقة عن طبقة، فلماذا لايكون ذلك فى الشعوب القديمة التى لم تتحرك من أرضها، ولم يتغير شيء من جوهرها أو طبيعتها؟ نعم إن أوروبا سبقت مصر اليوم، ولكن بماذا؟ بذلك العلم المكتسب فقط، الذى كانت تعتبره الشعوب القديمة عرضا لا جوهرا، ودلالة سطحية على كنز دفين، لاتعتبره فى ذاته كل شىء، إن كل ماتعلمناه نحن الأوروبيين الحديثى النشأة أن سرقنا من تلك الشعوب القديمة هذا الرمز السطحى دون الكنز الدفين، كذلك جيء بأوروبى وافتح قلبه تجده »خاويا«، الأوروبى إنما يعيش بما يلقن ويعلم فى صغره، لأنه ليس له تراث ولا ماض يسعفه بغير أن يتعلم، احرم الأوروبى من المدرسة يصبح أجهل من الجهل، قوة أوروبا الوحيدة هى فى العقل، تلك الآلة المحدودة التى يجب ان نملأها نحن بإرادتنا، أما قوة مصر ففى القلب الذى لاقاع له، ولهذا كان المصريون القدماء لايملكون فى لغتهم القديمة لفظة يميزون بها بين العقل والقلب، فالعقل والقلب عندهم كان يعبر عنهما بكلمة واحدة هى القلب، ثق يامستر بلاك أن الفاسد من هذه الأخلاق ليس من مصر، بل ادخلته عليها أمم أخرى كالبدو أو الأتراك مثلا، ومع ذلك فلا يؤثر هذا فى الجوهر الموجود دائما، احترسوا أيها الإنجليز من هذا الشعب، فهو يخفى قوة نفسية هائلة، وخذ بناء الأهرامات مثلا، فعلى حد قول عالمنا الأثرى موربيه، إنه حلم فوق مستوى البشر، فقد تحقق مرة على هذه الأرض، ولكنه لن يعود أبدا!! إننا نحن الأوروبيين لنا العذر، لأن لغتنا لغة المحسوسات، إننا لانستطيع أن نتصور تلك العواطف التى كانت تجعل من هذا الشعب كله فردا واحدا، يستطيع أن يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عاما، وهو باسم الثغر، مبتهج الفؤاد، راضيا بالألم فى سبيل المعبود، تماما، كما يفعل أحفادهم يوم جنى المحصول، نعم كانت أجسادهم تدمي، ولكن ذلك كان يشعرهم بلذة خفية، لذة الاشتراك فى الألم من أجل سبب واحد، هذه العاطفة، عاطفة السرور بالألم جماعة، عاطفة الصبر الجميل، والاحتمال الباسم للأهوال من أجل سبب واحد مشترك، عاطفة الإيمان بالمعبود والتضحية، والاتحاد فى الألم بغير شكوى ولا أنين، هذه قوتهم، إنهم مازالوا يعون بقلوبهم تلك العبارة التى كان أجدادهم يندبون بها موتاهم فى الجنائز، عندما يصير الوقت خلودا، سنراك من جديد، لأنك صائر إلى هناك، حيث الكل فى واحد، إن هذا الشعب المصرى الحالى مازال محتفظا بتلك الروح، روح المعبد، أجل، لاتستهن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه، ولاينقصه ألا شىء واحد: المعبود، ذلك الرجل الذى تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه، ويكون له رمز الغاية، عند ذاك لاتعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية إذا أتى بمعجزة أخرى غير «الأهرام»!! د. صلاح أحمد حسن أستاذ بطب أسيوط