تحدثنا في المقال السابق عن مالر و السيمفونية الخامسة التي كانت حياته الشخصية هي مصدر إلهامها أما اليوم فنلقي الضوء علي مؤلف موسيقي آخر كانت قوميته هي مصدر إبداعه الفني وهو المؤلف التشيكي انطونين دفورجاك. لم يكن دفورجاك من المؤلفين المجددين أو من لهم بصمة أو إضافات محورية في عالم الموسيقي ولكنه كان احد المؤلفين البارزين الممثلين للتيار القومي الذي ظهر وازدهر في كثيرا من البلدان الأوروبية وغير الأوروبية مع نهاية القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين فهو مؤلف تشيكي الأصل لعبت الموسيقي الألمانية دورا أساسيا في تكوينه الفني رغم اختلافها الكلي عن الموسيقي الشعبية لبلاده. ولد دفورجاك بمدينه بوهيميا علي مقربة من مدينه براج التشيكية والتي كانت خاضعة للإمبراطورية النمساوية و في طفولته درس اللغة الألمانية و في شبابه تأثر اشد الأثر بالمدرسة الرومانتيكية الألمانية في الموسيقي فكان من اشد المغرمين بعمالقة التأليف الموسيقي آن ذاك أمثال فرانز ليست و فاجنر أما برامز فقد جمعته به علاقة صداقه و تبني كان لها اثر خاص علي موسيقاه. كتب دفورجاك الكثير من الأعمال متأثرا بهؤلاء العمالقة منها أوبرا "الفريد" و العديد من الرباعيات الوترية التي تأثر فيها باسلوب فاجنر و الرقصات السلافية و السيمفونية السادسة التي اقتبس فيها الكثير من أفكار برامز الموسيقية. ولكن هذا التأثر لم يطغي علي حبه لبلاده فكانت الموسيقي التشيكية الشعبية هي مصدر الهامة الأول الأمر الذي أثار إعجاب و اهتمام المؤلف القومي البارز سميتانا به و الذي حرص اشد الحرص علي تشجيع هذا المؤلف الشاب و تقديم مؤلفات التشيكية ذات الرداء الكلاسيكي بشكل دائم. فالسيمفونية السادسة هي أفضل مثال يجمع هاتين الثقافتين معا في عمل واحد فنري السيمفونية تتكون من أربع حركات متباينة لكل حركة منها لون مختلف فنري علي سبيل المثال الحركة الثانية "الاداجيو" تظهر ملامح المدرسة الألمانية في التأليف الموسيقي متأثرة ببصمات بيتهوفن الواضحة في بنائها الهارموني واللحني والتوزيع الأوركسترا لي وخاصة الكتابة لآلات النفخ الخشبي ونري الحركة الرابعة تتطابق مع الحركة الرابعة للسيمفونية الثانية لبرامز في بنائها الدرامي فيقتبس فيها دفورجاك فكرة الجمع بين الموضوع الأول والأساسي لصيغه الصوناتا في كل من الحركة الأولي والرابعة أما الحركة الثالثة فتظهر قومية دفورجاك التشيكية متمثلة في رقصة "الفورانت" البوهيمية الشهيرة التي كانت مصدرا دائما لإلهام الكثير من المؤلفين فهي رقصة سريعة تجمع بين كلا من الميزان الثنائي والثلاثي في آن واحد خالقة إيقاع سينكوبي أعرج غير مستقر يمثل جماليات الرقص البوهيمي. ورغم كل تلك الاتجاهات الموسيقية المتباينة التي تلاقت في هذا العمل العظيم إلا أننا نري دفورجاك يمزج كل تلك المفردات المختلفة أو المتنافرة إن جاز التعبير في سياق واحد متجانس بمهارة فائقة خالقا لونا رماديا محايدا قائما بذاته.