جلسا حول المائدة الوحيدة التي لم تكن مشغولة. وطلب هو زجاجة كوكا كولا كان هناك كثير من الناس وضجيج عال: أصوات، قهقهات، سيمفونية تنطلق من الجميع. والسيمفونية موضوعة. كانت تينا في ذهول تام ومرتاعة بشدة.قال لها: مازلت لم أعرف اسمك، اما أنا فاسمي خوان أرويو. كريستينا رييس قالت له تينا، ولو هلة لامت نفسها علي أنها لم تقل له اسما آخر، لكن ما أهمية ذلك بعد كل ماجري؟ كرستينا، تينا، اسم جميل جدا، محبب لي أكد عليه الشاب وهو يبتسم. وخلال ابتسامه لمعت عيناه، له عينان سوداوان لوزيتان «لاشك في أن له طلعة بهية» لم تستطع تينا إلا أن تفكر هكذا. خادمة المائدة جاءت بالزجاجتين المثلجتين. بينما كان يقدم لها المشروب، لاحظت هي بعين مدققة الزجاجتين والمشروب. كانت الزجاجات سليمة تماما. ففي الصحف يحكون عمن يضعون مخدرات في المشروبات، وإذا جاءوا بالزجاجات المثلجة وهي مفتوحة، يكون من السهل جدا أن... كلميني عن نفسك يا تينا، ماذا تعملين؟ سألها الشاب مبديا اهتماما تعرف هي تماما أنه اهتمام مزيف. بدأت تينا تحكي، بصعوبة شديدة، أنها تشتغل في مصنع ينتج السويترات وكررت بلا رغبة الكلمات والخوف قد نشف ريقها. شربت قليلا من الكوكاكولا، جرعة واحدة فقط، ما تحتاجه لكي تبل ريقها وتتمكن من الحديث، وفي الوقت نفسه، لو أحست بطعم غير معتاد، لكنها لم تلحظ شيئا غريبا في المشروب المثلج وهدأت ولو أنهم أكثر من ذلك يضعون مخدرا لا يعطي طعما. وبالنسبة لثيليا فقد وضعوه لها فى الشراب، والمسكينة لم تعرف شيئا عن ذلك إلا فى اليوم التالى عند استيقاظها. ألح الشاب فى معرفة أمور أخرى تتعلق بها : عن عائلتها، مع من تعيش. ما الذى تحب أن تفعله، الأماكن التى اعتادت أن تذهب إليها... وتينا بدأت تنبش قبور موتاها، وتخترع أخوات وأخوه، لم تستطع أن تقول له أنها تعيش وحدها، وليس لها أحد ليحميها ويرعاها لو أنه عرف بذلك فسيمكنه أن يدخل غرفتها، وهناك يجرى نفس ال.. على شابة صغيرة مسكينة خنقوها بمخداتها فى بيتها، بعد أن.. بدأت أمور أشد رعبا! وماء عرق بارد نزل على ظهرها وجعلها تنتفض من القشعريرة. كان يحكى لها عن أنه يعمل فى مطبعة، وذلك العمل، لم يكن طبعا هو ما يريده، ولكن بما أن الأعمال كانت نادرة والحصول عليها صعب، فقد رضى بها، لقد مرت سنة على وصوله فى مدينة خواريث حيث توجد عائلته كلها، ولقد دفعه للخروج من هناك، وهو يفكر بأنه فى العاصمة أنه سيجد فرصا أفضل، وهو يقيم فى بيت بعض الأقرباء البعيدين له، حيث يذهب لينام فقط عندهم، وهو لم يكف عن الإحساس بالافتقاد الشديد لبيته وأسرته. كانت تينا تسمعه، وهى تعرف مقدما أن كل ما يقوله، أو يمكنه أن يقوله كلام فالصو، درس تعلمته من الذاكرة أو جربته مرات كثيرة، ويعلم الله كم عددها، كل الأصناف مثله لعبوا بنفس الطريقة يتظاهرون بأنهم لم يكسروا طبقا واحدا، ويواصلوا خداعهم حتى آخر لحظة، والتى يخلعون فيها أقنعتهم بأقصى قدر من الدناءة، وهى لا تستحق أن يكون ما تناله فى النهاية بمثل هذه القسوة، والآن يكفيها بالفعل ما قاسته من الوحدة والبؤس حتى تتقبل تضحية أخرى، وبدأت تعانى بشدة وانتابتها رغبة عارمة فى الانفجار بالبكاء، وأخذت تتساءل بيأس ودون اجابة أى شىء عليها أن تفعله، لماذا أو ما الذى عليها بسببه أن تروح ضحية، حول المائدة المجاورة، تحلقت ثلاثة ثنائيات من الرجال والنساء، رأتهم تينا رغما عنها بينما كانت امرأة تصبغ شعرها باللون الأشقر تحيط بذراعيها عنق الرجل الذى كان يجلس بجانبها وأمام الدنيا كلها أخذت تقبله بقلة حياء لا حد لها التفتت تينا على الفور إلى الناحية الأخرى، وهى تحس بأن حمرة الخجل قد صبغت وجهها حتى شعر الرأس، انهن يشبهن من تراهن خارجات من اللحية الزرقاء، إنها لا تفهمهن ولا تغفر لهن، إنها مختلفة تماما، فهى تعتقد فى الحب، فى الايدى المتعانقة، فى الليالى المقمرة، فى النظرات المتبادلة فى الكلمات الرقيقة، وخلال الزمن الطويل الفائت ظلت تحلم كيف سيكون فستانها الأبيض وكيف ستتزين الكنيسة يوم زفافها والموسيقى التى ستعزف... وعانت فجأة من شعور مرعب بالخوف، شعور مميت من الساعات المقبلة، إلى أين سيأخذها؟ وكيف ستكون البداية؟ سألت نفسها والقلق يفترسها وهى محاصرة فى حارة سد لا مخرج منها. تينا، هل لك فى زجاجة مثلجة أخرى؟ لا شكرا هذا ما ردت به عليه وألح هو : حقيقى بكل صدق. رفضت من جديد لكنها بعد ذلك فكرت بأنها وافقت أن يقضيا الوقت جالسين فى محل المرطبات لأنه هنا لا يمكن أن يفعل لها شيئا، تناولا شرابا آخر، وواصل هو كلامه وتساؤلاته، مقدما نفسه لها كان يتكلم بصوت رائق تتغير طبقته بحنو كما لو أنه يلاطفها، (لابد أنه صاحب تجربة كبيرة) وشىء مثل دبيب النمل المسعور يجتاح بدنها كله كلما فكرت : كيف ستكون البداية؟ لو أنه من أولئك الذين يضربون الشابات بقسوة، أو ربما دون شرح زائد عن اللزوم سيرتمى فوقها وينزع ثيابها و.... وأيضا يوجد البعض ممن يغتالونهن. أولا ثم بعد ذلك.... وشعرت بأنها حرانه جدا، فأخرجت منديلها وهوت على نفسها به، وبعدها نشفت جبينها. وسألها هو إن كانت غير مرتبطة وبالكاد تمكنت تينا من أن ترد عليه : لا لأن نارا شبت بقوة فى داخلها، وعندئذ دفع الشاب الحساب وخرجا من محل المرطبات وقال لها الشاب : علينا أن نأخذ تاكسى أجرة، ففى هذه الساعة لا توجد سيارات ركوب عامة فهذا هو المعتاد، والذى كانت قد قرأته فى الصحف اليومية، إنهم دائما ما يشركون معهم فى الجريمة سائق تاكسى ربما اتفق معه على أن يلتقطها من المدينة ويأخذها إلى تلك الأماكن المنحوسة.. فهذا ما حدث لتلك المسكينة ثيليا... اقترح عليها أن يمضيا حتى الناصية، إذ أن من هناك تمر دائما سيارات التاكسى، فى أى ساعة، وتينا واصلت السير، وهى تقول لنفسها لابد أن هناك التاكسى الشريك فى الجريمة لكنها تركته يسوقها، وهى موقنة، كما باتت، أن هذا هو قدرها، ومثل بغى لابد أن يتحقق، وإن حاولت أن تقاوم، وبالفعل ولم يكونا قد وصلا تماما، حتى اوقف تاكسيا. عندما سألها الشاب عن عنوانها، أعطته العنوان بلا تردد، متأكدة من أنه سيحملها إلى مكان آخر مختلف تماما استراحت فى المقعد وانزوت خجلة، ولاحظته بطرف عينيها : المسكين يريد أن يخدعها، كما لو أنها هى نفسها لا تدرك. ما كان يجرى فى مناسبات مختلفة كانت لديها الرغبة فى حالة كهذه أن تضحك لكن عندما قدرت أن النهاية تقترب، شعرت كما لو أنها ستفك بنفسها رباط حمالة الصدر فيما هى ماضية إليه وأنها تهوى. فى الفراغ، وتتورط فجأة فى ظلامه، وعلق الشاب وهو يقترب من تينا : يا لها من ليلة أكثر من جميلة! وأنا اعتقد أنها الصحبة هى التى تجعلنى أرى الليلة هكذا، ليس فيها أى درجة برودة، وألا ترين الآن أن القمر أكبر كثيرا؟. وأخذ راحة يد تينا بين راحتيه. راحة يد تينا ظلت باردة وعرقانة، وراحة يد الشاب دافئة وما من عرق بها، تطلعت تينا إلى الخارج إلى فوق وهى تتساءل بينها وبين نفسها إن كانت سترى مرة أخرى ليلة مثل هذه، لو بقيت على قيد الحياة، ولو بعد كل ما جرى فسوف يكون الليل نفسه تقريبا، دون أن تستطيع رفع رأسها مطلقا، ومن المؤكد أنها ستخرج فى الصحف اليومية، مثل شابات كثيرات جرى لهن سوء الحظ نفسه كيف ستنظر عندئذ إلى روسا، وكيف ستقبل الأطفال... لقد مر وقت طويل لم أحس فيه، بمثل هذا الرضا، لقد منحتنى صورة شبيهة بشابة من مدينة خواريث، كنا مخطوبين، لقد أحببتها بشدة ودائما أتذكرها ومن سوء حظى لم يسمحوا لها أن ترتبط بى وانتهت علاقتنا بعد ذلك تزوجت من رجل آخر، وهو الذى أخذها معه من هناك ولم أعد أراها. وتينا قالت له، إنه شىء طبيعى أن يعارض الأبوان، فالمؤكد أنها كانت شابه صالحة، وهو قد.. وقال الشاب وهو يضغط على راحة يدها : إننى معجب جدا بعينيك لأنهما واسعتان وجميلتان مثل عينيها. جربت تينا شعورا غريبا لم تعرفه، والذى راح يغزو كيانها، وقدرت على الفور أن الشاب أمسك براحة يدها وشدد عليها، وما أسرع ما شعرت بالخجل والضيق من نفسها بسبب هذا الخطأ الذى لا يغتفر، وحاولت إن تعزى نفسها وهى تفكر ألا ذنب لها فى كل هذا الذى يجرى، ففى لحظة غامضة أتخذ له مكانا، وهى تصرفت بجدية شديدة كالعادة، إنه القدر، فقط، وهى كانت الضحية لقدر لا يرحم، ولكن كيف سيمضى فيما يشرع فيه؟ رأت نفسها وقد تعرت من ملابسها. فى غرفة قذرة، وتحت رحمته وهو يتقدم ويتقدم نحوها... موجة حارة تغمرها من الخجل، وفى الوقت ذاته البرد الذى يسببه عريها يجعلها ترتعش وتنتحى جانبا أكثر فى مقعد الاتومبيل، كما لو كانت حيوانا واقعا فى مصيدة. أما هو، فكان مستمرا فى حديثه عن الانطباع الذى كانت هى السبب فيه، والذى يرجع إلى التقائه بالعينين ذاتهما، وفى لحظة، بينما كانت تصعد سيارة الركاب... ظن هو أنه يتصرف نحو خطيبته القديمة، لكن كانت النتيجة بهذا الشكل أفضل. ولقد سعد جدا بالتعرف على تينا، بأن يلتقى بها عندما كانت تحس بالوحدة الشديدة والضجر، بلا أحد تخرج معه، أو من يكلمها وتكلمه، وقال كلاما كثيرا كانت تينا بالكاد تسمعه لأن أفكارها المنفلتة أذهلتها اقتربت اللحظة، وهى فريسة الرعب، حتى أنها لم تفكر فى إمكان طلب العون والهرب، فذلك كله سيتسبب فى فضيحة ما الذى ستكون عليه أفكارهم عنها، ربما سيفكرون في أنها هى التى جرت وراءه، وفى أفضل الأحوال، سيفكرون بأنها (واحدة من كثيرات) وسيتعاملون معها مثل تعاملهم معهن.. كم هو شىء فظيع ولابد سيكون تعامل وكلاء النيابة، والبوليس معها والأسئلة المخجلة والتى لا تنتهى، ما الذى ستقوله هى؟ المواجهات، الإثنان وجها لوجه وداخلهما ممتلىء بالكراهية، وهى هدف لكل النظرات كاميرات التصوير تطاردها، إعادة الفحص الطبى، وهى عارية تماما فوق منضدة باردة، مثبتة يربطها من المعصمين والكعبين والكل مثل النسور حولها، الأيدى، والعيون فيها فى الداخل، ومن الخارج فى اعضائها كلها، وهى عارية امام مئات الأعين التى تلتهمها بشراهة، أبدا، أبدا، كان من الأفضل لها أن تقاسى هى وحدها ما يجرى، فى صمت، دون أن يعرفه أحد. توقفت العربة ودفع الشاب الأجرة، ونزلا. وها هى اللحظة قد جاءت، وكيانها كله تسحبه دوامة هائلة من الأفكار والتخيلات التى تزاحمت بالذين يخبئون السكاكين فى أكمامهم ليطعنوها بها غدرا، وتتوالى بعضها، وأخرى من شريط سينمائى يعرض بسرعة تسبب الدوار، وسأل هو. هل تعيشين هنا يا تينا؟ وتينا ترفع عينيها اللتين تسمرتا فى الأرض، وتنظر هى إلى المبنى الذى تعيش فيه، ولكنه لم يكن هو، لا يمكن أن يكون هو لأنه قد حملها إلى مكان آخر. وكانت عيناها هما اللتان خدعتاها، هما اللتان جعلتا ما تراه ليس هو فى الحقيقة غرفتها فى الطابق الثالث فى مبنى بائس، حيث كانت تريد أن تصل إليها مثل كل الليالى الأخرى (والتى كانت تريد الخروج منها، لكن ألا تكون... وسألها الشاب : أتعديننى أن تنتظرينى غدا فى عملك؟ ولكن معظم كلامه لم تصغ إليه تينا. كان عليها أن تعبر عتبة مصيرها، وعليها أن تهرب من غرفة قذرة فى فندق، وتلقى بنفسها وهى تجري فى الشارع تحت عربة تجرى بسرعة مجنونة يائسة، مصطدمة بالناس، وهى تتعثر بكل الأجساد، بكل الوحيدين فى الأماكن المظلمة التى تصادفها تتقاطع وتتجمع وتتفرق وتعود لتتجمع، لاهثة، شرهة، لا تشبع، تتمالك نفسها وتجن فتهبط وتصعد لتركب عربة عمياء حتى تلقى نهايتها مع انحرافها عن خط سيرها والسقوط فجأة فى هوة العدم، خارج الزمان وخارج مكان.