قرأت بمودة وعرفان ما كتبه الدكتور حسن الشافعى رئيس مجمع اللغة العربية وعضو هيئة كبار العلماء ونشرته (الأهرام) يوم الاربعاء الماضى ردا على ما جاء فى مقالتى المنشورة فى هذه الصفحة يوم الاربعاء التاسع عشر من الشهر الماضى بعنوان (الأزهر وفقه المراجعة) فوجدته (ردا هادئا) بالفعل، كما قال عنوانه تلطف فيه صاحبه حتى أخجل تواضعى، وإن كانت لى مآخذ تستحق أن نناقشها معا. لقد دعوت الأزهر الشريف ليراجع مواقفه من المسائل السياسية والثقافية التى عرضت لنا فى تاريخنا الحديث كالديمقراطية، والدولة المدنية، والدين والسياسة، والدين والعلم، والدين والفن، وحرية التفكير والتعبير فى ضوء الإجابات التى قدمتها ثوراتنا المتتالية لهذه المسائل، وهى اجابات تبنتها الملايين وأجمعت على صحتها، وأسقطت بها الطغيان الملكى، والنظام العسكرى البوليسى، والنظام الدينى الطائفى، وانتصرت للديمقراطية، والدولة الوطنية المصرية، وحقوق الإنسان. ولقد وجهت هذه الدعوة للأزهر الشريف، وأنا أعرف تاريخه ورجاله ودوره الذى أداه فى حياتنا، أعرف مقاومته للمحتلين الفرنسيين فى مطلع هذا العصر، وتأييده لثورة عرابى، وثورة 1919 وثورة الثلاثين من يونيو، وأعرف العز بن عبد السلام، والجبرتى، والعطار، والطهطاوى، ومحمد عبده، وعلى عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، والمراغى، وخالد محمد خالد، وأحمد الطيب. ولأننا نعرف الأزهر ونعرف مكانته الراسخة، وكلمته المؤثرة فى حياتنا فمن حقنا أن نطالبه بمراجعتها. وأنا لم أدع الأزهر وحده لمراجعة مواقفه، وإنما دعوت الجميع للقيام بهذه المراجعة الضرورية، وقلت بالنص (علينا جميعا أن نراجع مواقفنا، وأن نصححها إذا وجدنا أنها فى حاجة للتصحيح) وفى ظنى أن مراجعة النفس فضيلة يحض عليها الدين والخلق، وإلا فكيف نصحح أخطاءنا؟ وكيف نستفيد من تجاربنا؟. فإذا كنت قلت إن ضباط يوليو وغيرهم ممن سبقوهم ولحقوهم من الحكام عندنا، وعند غيرنا استخدموا الدين ورجاله فى فرض سلطتهم وتبرير سياستهم، فأنا لم أتجاوز الحق فيما قلت، وقد ضربت بعض الأمثلة، وباستطاعتى أن أملأ هذه الصفحة بالاسماء والوقائع والتاريخ حافل بها، وقد استعان الطغاة كثيرا برجال الدين، صحيح أن العكس صحيح كذلك، وأن التاريخ حافل أيضا بالذين قاوموا الطغيان من رجال الدين عامة، ومن رجال الأزهر، وقد ذكرت من هؤلاء الإمام محمد عبده والشيخين على عبد الرازق وخالد محمد خالد، ُفإذا كان علينا دائما أن نشيد بهؤلاء، فعلينا بالمثل أن نحاسب أمثال القرضاوى الذى استخدم صلاة الجمعة فى سرقة الثورة، واستخدم الدين كله فى خدمة من يعمل فى خدمتهم فى قطر، وفى خدمة من تعمل قطر فى خدمتهم من الأمريكان والأتراك والإسرائيليين. والأزهر الشريف لم يكن فى يوم من الأيام بعيدا عن السياسة، لأنه لم يكن بعيدا عن الناس، ولم يكن بعيدا عن السلطة التى كان لها الحق فى تعيين شيخ الأزهر، وحول هذه المسألة كان الصراع يحتد بين الملك ورؤساء الحكومات، ونحن نشاهد ونتابع ما يحدث فى جامعة الأزهر هذه الأيام، طلاب وطالبات وأساتذة لا يكتفون بإعلان انتمائهم للجماعات الفاشية الإرهابية، بل هم يقطعون الطرق، ويوقفون الدراسة، ويهربون زجاجات المولوتوف، ويهاجمون من يعترضهم من الطلاب والأساتذة ورجال الأمن، ويحرقون السيارات، ويهدمون المبانى، ويدافعون عن الدولة الدينية، وعن سلطة الإخوان الفاشيين التى أسقطتها ثورة الثلاثين من يونيو. غير أن الدكتور الشافعى يرى فى رده الهادئ أن الأزهر لا شأن له بمدنية الدولة التى اختلف حولها أعضاء لجنة الخمسين التى عدلت الدستور، وتحالف فيها ممثلو الأزهر والسلفيون ووقفوا معا ضد النص على مدنية الدولة أقول إن الدكتور الشافعى يرى مع هذا أن الأزهر لا شأن له بمدنية الدولة، لأن مدنية الدولة فى رأيه شعار سياسى ترفعه أحزاب سياسية وتعارضه أحزاب أخرى، والأزهر يعبر عن الفكر الإسلامى الوسطى لا عن يمين ولا عن يسار. والحقيقة التى نعرفها جميعا، حتى الجماهير البسيطة التى خرجت فى الثلاثين من يونيو لتسقط سلطة الإخوان، هى أن مدنية الدولة ليست شعارا حزبيا، كما يرى الدكتور الشافعى، وإنما هى شرط جوهرى فى الدولة الحديثة، حتى تكون دولة ديمقراطية عادلة تحتضن الجميع، اليسار، واليمين، وما بينهما، فإذا كنا نريد الديموقراطية، والعدالة، فعلينا أن نحافظ على مدنية الدولة، وهى صفة تنتسب بها الدولة للمدنية أى لأهلها أو للمجتمع، أو للشعب الذى تعاقد أفراده واتفقوا فيما بينهم على أن يعيشوا معا فى ظل دولة تضمن لهم حياتهم وحريتهم، وتحمى حقوقهم، والدولة التى تفقد هذه الصفة لتصبح دولة عسكرية أو بوليسية أو دينية تفقد شرعيتها، وتتعرض للسقوط، فإن نحن طالبنا الأزهر بأن يكون مع مدنية الدولة، فنحن نطالبه بما أعلن مرارا أنه يؤيده، ويقف إلى جانبه، وهو أن يكون مع الديمقراطية، ولا أظن أنى افتأت على الأزهر باطلا حين دعوته لمراجعة موقفه من حرية التفكير والتعبير، فالأمثلة كثيرة والحوادث جمة، وأنا لم أقرأ عنها فقط فى صحيفة أو كتاب، وإنما عايشتها وأصابنى رذاذها، وأصاب غيرى أكثر بكثير مما أصابنى، وبوسع القارئ العزيز أن يعود للمجلدات التى أصدرها المحامى الأستاذ نجاد البرعى حول حرية التعبير فى مصر ليرى أن مجمع البحوث الاسلامية التابع للأزهر (قام بمصادرة عشرات الكتب، ومنع تداولها فى المكتبات ومنها : مواجهة الفكر المتطرف الإسلامى، وقضية الحكم بما أنزل الله، وفتنة العصر الحديث وتطبيق الشريعة الإسلامية، بين الحقيقة وشعارات الفتنة، وقد أصدر المجمع كذلك قرارا بوقف نشر رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) حين رأت صحيفة (المساء) أن تنشرها على حلقات بعد فوز مؤلفها بجائزة نوبل، كما قام رجال المجمع بمصادرة عدة كتب من تأليف المستشار سعيد العشماوى وهى : أصول الشريعة، والإسلام السياسى والربا والفائدة، والخلافة الإسلامية، وفى مجال السينما والتليفزيون أوقف المجمع عرض مسلسل (أبو عبيدة بن الجراح) ومنع عرض فيلم (الرسالة) ومنع عرض فيلم (القادسية).. والأمثلة كما قلت كثيرة، وهذا كما يقولون غيض من فيض، لم أفتئت على الأزهر الشريف، ولم أقل فى نقده ربع ما قاله الإمام محمد عبده فى نقده، وكل ما فعلته أنى دعوته لمراجعة مواقفه من المسائل السياسية والثقافية التى عرضت لنا فى الماضى، ومازالت تعرض لنا وستظل، خاصة بعد أن جعله الدستور (المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية) ونص على أن (شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل). نريد من الأزهر أن يكون مرجعنا فى الفكر الإسلامى المستنير، وأن يقف إلى جانب الديمقراطية، والدولة المدنية وحقوق الإنسان نريد منه أن يكون منارة لا سلطة!. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي