لم تكن الضربة القوية التى وجهتها الحكومة الحالية إلى البيئة مع نهاية الأسبوع الماضى بموافقتها على استيراد الفحم، وإحلاله محل الغاز الطبيعي، فى المصانع المصرية؛ أمرا جديدا أو مستغربا، إذ دأبت الحكومات المتعاقبة على توجيه الضربات الموجعة للبيئة، والإطاحة بقرارات ذوى التخصص، لخدمة مصالح رجال الأعمال، ولم تكن هذه الحكومة استثناء من تلك الحكومات للأسف. فقد حدث هذا عندما تم إجبار وزير سابق للبيئة على الموافقة على إقامة مشروع ضخم بحلوان رفضه الوزير لأنه يزيد من الحمل البيئى هناك. وحدث هذا عندما تم استباحة المحميات الطبيعية وشواطئ مصر النادرة لإنشاء العشرات من الفنادق والقرى السياحية، برغم أن ذلك يعنى الإطاحة بالقانون. وحدث هذا ثالثا- مع إجازة الصيد الجائر بالصحراء المصرية لأمراء وأثرياء عرب.. لكنهم لا يجرؤون على ممارسة هذا الصيد فى بلادهم. ولا تعد ولا تحصى قائمة خروقات الحكومات المتعاقبة للقانون، إلا أن الحكومة الحالية اتخذت -هذه المرة- ستار الحفاظ على الاقتصاد، وتوارت وراء أزمة الطاقة؛ لتمرير قرار كان تم اتخاذه مسبقا مع سبق الإصرار والترصد، لتعظيم العائد من أرباح الأسمنت، لصالح رجال الأعمال. والأمر هكذا، لم تستمع الحكومة إلى وزيرة الدولة لشئون البيئة الدكتورة ليلى إسكندر، وهى تحذر فى كل المحافل، وتستنجد بكل الغيورين على البيئة؛ لمنع اتخاذ قرار خاطئ يضر بالاقتصاد والتنمية والأجيال المقبلة، ويعرض الصحة العامة والموارد البيئية للخطر، ويعيد مصر إلى القرون الوسطى، ويطيح بمصداقية هذه الحكومة فى كلامها المتواصل عن الارتقاء بالبيئة، وشعاراتها نحو تحقيق التنمية المستهدفة. الرقابة.. والإعلام اكتمل السيناريو بأزمة مفتعلة فى أسعار الأسمنت للضغط على رجل الشارع لتقبل القرار، وبحملة تبرير منظمة عبر بعض وسائل الإعلام التى يملكها رجل أعمال أيضا. الغريب أن الحكومة التى من المتوقع أن ترحل بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية سارعت بالإعلان عن القرار.. مع الإعلان أيضا عن نيتها فى تعديل القانون؛ ليسمح بالأوضاع الجديدة، مستغلة غياب البرلمان، وعدم وجود آلية رقابية تحاسبها، حتى لا تخضع قراراتها للنقاش أو الحساب من أى جهة.. فالبرلمان غائب، والجمعيات الأهلية ضعيفة، والإعلام جاهز للتبرير. وبعد صدور القرار تحاشت ليلى إسكندر أن تتحدث حول أبعاده وأسبابه، لكنها كانت أصدرت وثيقة تتضمن رؤية الوزارة لقضية استخدام الفحم الملوث بطبيعته فى المصانع، مؤكدة أن هذا القرار يضر بالاقتصاد، وأن تطبيق المعايير البيئية على الفحم فى مراحل استقباله بالموانئ ونقله وتخزينه واستخدامه يجعله أكثر تكلفة من الغاز، علاوة على الخسائر الفادحة التى ستتعرض لها مصر بسبب انبعاث الكربون. الفحم أكثر كلفة الوثيقة أكدت أن الفحم لا يعتبر ضمن بدائل حل الأزمة العاجلة للطاقة نظرا لعدم توافره فى مصر، وعدم وجود البنية الأساسية لمنظومة الاستيراد التى تشمل المواني، والنقل والتخزين والتداول، وأن الاستثمارات الضخمة تستوجب الاستمرار فى استخدام الفحم لمدة لا تقل عن فترة ما بين 10 و 15 سنة حتى لو ظهرت آثاره السلبية على البيئة وصحة المواطنين فى وقت مبكر، وإذا أرادت الحكومة إلغاء الاعتماد على الفحم فستتعرض مصر للتحكيم الدولى إذا كانت هذه الاستثمارات تتبع جهات خارجية. وعلى الرغم من أنه يتم استخدام الفحم منذ فترة طويلة على نطاق واسع فى أوروبا وأمريكا نظرا لتوافره فى هذه البلاد، إلا أن ما أظهرته الدراسات العلمية من ارتفاع التكلفة المجتمعية نتيجة الآثار السلبية للفحم أدى الى مراجعة استراتيجيات الطاقة فى هذه البلاد، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة على حساب الفحم. أضرار صحية أما عن الآثار الصحية للفحم فيُعتبر من أسوأ أنواع الوقود من حيث تأثيراته السلبية على الصحة ليس فقط فى المنطقة المحيطة ولكن أيضا فى المناطق البعيدة. والفحم له أضرار صحية مدمرة على المخ والأعصاب والرئتين والعديد من أجهزة الجسم البشري. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن استنشاق دخان الفحم يتسبب فى زيادة خطر الإصابة بسرطان الرئة، وأمراض أخرى كثيرة، نظرا لأن بعض الملوثات الخطيرة مثل الجسيمات الدقيقة والزئبق والديوكسين تنتشر على مسافات قد تزيد على ألف كيلومتر. مخاطر تغير المناخ يضر استخدام الفحم بموقف مصر التفاوضى فى اتفاقية التغيرات المناخية، كما يعرض مصر لمخاطر عدم الاستجابة لمطالبها بالتعويضات التى تستحقها لأن مصر من الدول الأكثر تعرضا للأضرار نتيجة التغيرات المناخية، إذ تبلغ الخسائر بسبب الأضرار فى منطقة الدلتا فقط نحو 100 إلى 500 مليار جنيه سنويا، وهذا يتعارض مع سياسات الدولة المعلنة، وهى التنمية الاقتصادية الأقل اعتمادا على الكربون، واستخدام تكنولوجيات الإنتاج الأنظف. أما عن بدائل الفحم فقد حددتها وزارة البيئة فى ضرورة اتباع المنهج الأوروبى فى استخدام مصادر الطاقة المتوافرة داخل البلاد، وعدم الاعتماد على استيراد الوقود من الخارج؛ حتى لا يترتب على ذلك مخاطر على الأمن القومى المرتبط بأمن الطاقة. وتُعتبر الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح من أهم مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التى تتوافر فى مصر، ويجب أن تؤدى دورا مهماً فى التغلب على مشكلة نقص الوقود، وتوليد الكهرباء بتكلفة تنافسية، وتعظيم الاستفادة من المخلفات كأحد مصادر الطاقة، واستخدامها كوقود بديل فى الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، خصوصا صناعة الأسمنت، عن طريق التشجيع على إنشاء مصانع لتحويل المخلفات إلى وقود مما يؤدى إلى جذب استثمارات، وصنع فرص عمل، والتخلص من مشكلة القمامة. «الاستثمار السياحى» ترفض فى أول ردود الأفعال على القرار الحكومي، كان رفض جمعية الاستثمار السياحى بالبحر الأحمر (هيبكا) لأى عمليات استيراد للفحم عبر موانئ البحر الأحمر، خصوصا ميناء سفاجا؛ معتبرة ذلك تهديدا مباشرا للسياحة المصرية. وقد أرسلت الجمعية شكاوى عدة لرئيس الوزراء للتدخل لوقف استيراد الفحم لاستخدامه كمصدر للطاقة بمصانع الاسمنت عبر ميناء سفاجا البحرى، لا سيما أن مدينة سفاجا هى المدينة الأهم سياحيا فى السياحة العلاجية، ويقصدها الكثير من السياح الراغبين فى الاستشفاء العلاجي. واعتبرت الجمعية أن السياحة ستتأثر بطرق مباشرة بهذا القرار من خلال ما ستتسبب فيه عمليات الاستيراد من أضرار كبيرة على البيئة البحرية التى تمثل العامل الرئيس الداعم للقطاع السياحى خاصة أن السياحة بالبحر الأحمر -فى المقام الأول- هى سياحة شاطئية تعتمد بشكل رئيس على البيئة البحرية. وأشارت إلى أن هناك تأثيرا غير مباشر سيظهر من خلال استغلال المقاصد السياحية المنافسة لعمليات استيراد الفحم لمهاجمة السياحة المصرية، وتنفير السائح الأوروبى من المقصد السياحى المصري، بالترويج لكون مصر دولة مستوردة للفحم عبر موانئها التى تقع على شواطئ البحر الأحمر، وسط المنتجعات السياحية الممتدة بطول البحر الأحمر. وسيؤدى القرار -أخيرا- إلى ضياع مساحات شاسعة من الشعاب المرجانية الأكثر حساسية التى تعد الركيزة الأساسية للتنمية السياحية بالبحر الأحمر.