وبينما الصبح يتنفس لتوه، ولم تبرح نسمات الفجر ما تبقى من أشجار المدينة، تتلقف الخارجين لتوهم من البيوت، المتوكلين على ربهم، الساعين إلى الرزق أو العلم أو العمل، يخرج من بين الناس إناس استباحوا دماء الناس، مناهم الشيطان بمغفرة من ربهم فبرر لهم صنوف الإيذاء وزين لهم أفانين القتل وسفك الدماء قنابل خسيسة الصنع زرعها (من زرع) فى نهر الطريق؛ ليس لها هوية وإنما لها هدف قتل ما تيسر من الناس! فلما تحين لحظة الدمار وتتناثر أشلاء الأجساد، يعيدنى المشهد إلى قصة معبرة جاء ذكرها فى القرآن والتوراة كلا من منظوره، وإن ظل المغزى منها متشابها؛ وذلك حين بعث الله بملائكته لتدمير قوم عن بكرة أبيهم هم قوم لوط عليه السلام؛ من بعد أن عاثوا مفسدين؛ففى هذه القصة بالذات نحن أمام مشهد بالغ العنف يوشك على الحدوث مع مطلع النهار، ولكن.. فلننظر إلى السرد القرآنى والتوراتى للقصة لاستبيان كيف برر الله عز وجل هذا الدمار؛ إذ نجد ذكرا لشخصية رجل قوى الحجة هو سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ و نرى كيف أرسى بمنطقه قاعدة تفكير ذكية خلال جداله مع من مروا عليه من رسل ربه من قبل أن يفعلوا ما أمروا به:(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (74) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود) (75) (سورة هود). ثم لنجد فى سورة العنكبوت ذكرا للقصة نفسها و لكن من منظور جديد:( قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا أمرأته كانت من الغابرين) (32). فماذا كان منطق إبراهيم؟ يقول القرطبى فى تفسيره: إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: « إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها ...”؛ وفى تفسير ابن كثير: قال سعيد بن جبير: لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له: إنا مهلكوا أهل هذه القرية،قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، قال ثلاثون ؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسة قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها؟ قالوا: لا، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: «إن فيها لوطاً ...”.وفى تفسير البغوي: قال عامة أهل التفسير إنه قال للملائكة: أرأيتم لو كان فى مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: أو أربعون؟ قالوا: لا، قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسة، قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله إلا أمرأته كانت من الغابرين. ثم لم تبخل التوراة فى الأصحاح الثامن عشر من سفر التكوين بذكر الجدل ذاته ولكن فى سياق حديث دار بين إبراهيم وربه: « (23) فتقدم إبراهيم وقال أفتهلك البار مع الأثيم (24) عسى أن يكون خمسون بارا فى المدينة أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه (25) حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم حاشا لك أديان كل الأرض لا يصنع عدلا (26) فقال الرب إن وجدت فى سدوم خمسين بارا فى المدينة فإنى أصفح عن المكان كله من أجلهم (27) فأجاب إبراهيم وقال إنى قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد (28) ربما نقص الخمسون بارا خمسة أتهلك كل المدينة بالخمسة فقال لا أهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين (29) فعاد يكلمه أيضًا وقال عسى أن يوجد هناك أربعون فقال لا أفعل من أجل الأربعين (30) فقال لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون فقال لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين (31) فقال انى قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون فقال لا أهلك من أجل العشرين (32) فقال لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة فقال لا أهلك من أجل العشرة ... «. ويرى مفسرو الكتاب المقدس أن صلاة إبراهيم توقفت عند عشرة أبرار لأنه اقتنع بأن هذا الشعب يستحق ما ينزل به من عقاب مادام لا يوجد بينه ولا حتى عشرة أبرار! وأعود فأسأل دعاة التدين ممن ينصبون من أنفسهم ميزانا للعدل فى الأرض ويستبيحون دماء كل الناس: أنحن أسوأ من قوم لوط؟ أليس فينا بار واحد يشفع لنا عندكم؟ أليس فينا عابد؟ أليس فينا أب كادح واحد يسعى على رزق أولاده؟ أليس فينا طفل برئ؟ أم أنكم أشد حجة من خليل الله؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! لمزيد من مقالات أشرف عبد المنعم