تبنت مكتبة الإسكندرية قضايا الإصلاح العربى ثم التغيير والتحولات فى العالم العربي، وأعطتها أهمية خاصة تميزت بالمثابرة والاستمرارية. فقد صدرت وثيقة الإسكندرية للإصلاح العربى فى مارس 2004 تحت رعاية المكتبة ثم استمرت اللقاءات فى اتجاه تعزيز وتطوير هذه الرؤية والموقف. وهذه ميزة شديدة الإيجابية، وهى أن تبدى مؤسسة ثقافية أصلا، اهتماما واضحا بالسياسة بمعناها الشامل. وضمن جهود مكتبة الإسكندرية فى اتجاه تطوير التناول الثقافى للتطورات السياسية العربية، عقدت فى الفترة 2 حتى 4 أبريل 2014 مؤتمرا تحت شعار:العالم العربي: نداء الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية. وقد تميز اللقاء كالعادة- بحضور عدد من المثقفين والناشطين العرب يمثلون كل التيارات الفكرية، مع تمثيل ظاهر للإسلاميين. جاء اللقاء هذه المرة بعد ثلاث سنوات على التحولات الشاملة التى طالت عددا من الدول العربية وبعضها ينتظر. وقد شهدت بلدان الحراك الشعبى أو الانتفاضات الشعبية، ما هو أبعد من الإصلاح الذى بشرت به اللقاءات السابقة أو طالب به المشاركون، وكان يبدو فى بعض الحالات سقفا عاليا. لذلك ظهرت محاولات مراجعة لتعريف أو توصيف ما حدث، بداية من صفة الربيع العربي. وكان التساؤل حول أول من أطلق التسمية؟ ثم مدى انطباق التسمية على ما حدث؟ ومثل هذا التساؤل يعكس- بوعى أو لاوعي- شعورا بالإحباط وخيبة الأمل. فقد أُطلقت التسمية بكل رمزيتها، ودلالاتها، وإيحاءاتها، على وضع كان يسوده التفاؤل والثقة فى المستقبل، لكن الواقع جاء صادما ومليئا بالمفاجآت غير السارة. كانت مهمة اللقاء إصدار:إعلان الإسكندرية للتغيير فى العالم العربي. وهنا يستمر دور المكتبة لتمثل منبرا للمثقفين العرب أو المنتدى الممكن لحوار النخب العربية. وهذا ماعبر عنه الإعلان مفصحا عن التصدى لهذه المهمة. وفى مقطع مُسهب: وقد ارتأى المشاركون فى ختام المؤتمر إصدار إعلان مكمل لوثيقة الإصلاح العربي، يحمل بصمة المرحلة التى نعيشها، ويسطر آمال الشعوب العربية فى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ويؤكد أن المشاركين من المثقفين العرب يحملون على كاهلهم آمال شعوبهم، وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل. وهذا التزام واضح وصريح بتحمل هذا القطاع من المشاركين مسئولية تحقيق الغايات المذكورة فى هذه المرحلة التاريخية. ومن هنا يُطرح السؤال: هذا نداء لمن؟ ومن هو المطالب بتنفيذه وإنجازه؟ بالتأكيد الجميع مخاطبون، لكن هنا لدينا مبادرة، وسؤال من يمكن أن يتقدم خطوات للقيادة؟ فقد كانت الإنتفاضات الشعبية عفوية تماما ولحقت بها النخب ولم تكن أمامها. ثم كان من الطبيعى أن تحدث الفجوة بين سلطة الثورة وجماهير الثورة. وهذا ما جاءت به نتائج الانتخابات التى أُجريت عقب التحولات والحراك الشعبي. وقد ارتبكت النخب العربية، إذ جاء الواقع مخالفا لتطلعات المستقبل، ووقعت فى أخطاء أتمنى أن يساعدها هذا الإعلان على تصحيحها، والانطلاق فى مسار يوصل لمستقبل أفضل- كما ذكر الإعلان. أظهر المشهد السياسى بعد ثلاث سنوات من الربيع العربيس ، هي: المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الدينية. أمّا المؤسسة المدنية الحديثة والتى يفترض أن تقودها النخب العربية فهى فى حالة فوضى تنظيمية وتيه فكرى وسياسي. لذلك فإننى أُثمّن مثل هذه اللقاءات عاليا لدورها فى تنبيه النخبة، ومساعدتها فى إدراك ما هى عليه، وما يجب أن تقوم به. فقد تخلت النخب عن دورالطليعة وقنعت بدور تابع، وفاعلية منقوصة رغم الصوت العالي. فقد أظهرت النخب العربية قدرة هائلة على التشرذم، وعدم الفعالية، والعدوان على الذات وليس الخصم؛ فوجدنا أنفسنا فعلا أمام ظاهرة صوتية تملأ أجهزة الإعلام، وتغيب فى الشارع وبين الجماهير فى الأرياف والنجوع. وكانت نتيجة الوهن والضعف وغياب القوة الذاتية هى الاختباء خلف القوة والرصيد الشعبى الذى تمتلكه المؤسسة العسكرية، والمؤسسة الدينية. وقد قامت النخب العربية بتقديم توكيل غير مكتوب للمؤسستين للقيام بالمهام التى يفترض أن تقوم بها ما تسمى ب النخب المدنية الحديثةس. متقدما فى قيادة هذه المرحلة. يدخل الربيع العربى مرحلة جديدة تمثل اختبارا حقيقيا لقدرة النخب العربية على صناعة المستقبل. لذلك النداءات رائعة ومفرحة ولكن كيف يمكن أن تنزل من الورق وتمشى على الأرض واقعا؟ هذا يتطلب من النخب رؤية فكرية، ولنقل حتى أيديولوجية رغم إدانة الإيديولوجيات، لكن المهم أن تكون معبرة عن الواقع لأنها درسته وفهمته. الأمر الثاني، برنامج عمل قابل للتنفيذ، ومدرك للمشكلات والمطلوبات. أما الأمر الثالث وهو الأهم والأصعب، التسلح بكل هذا والذهاب به إلى الجماهير والعمل على تمليكها إياه بمعنى أن يكون أساس وعيها وسبب عملها وتحركها حين يقتضى الأمر. لكن مثل هذا القول يبدو أقرب للأمانى العذبة حين نتابع الواقع. فباعتبارى مشاهدا خارجيا لما يجرى فى مصر الآن، يدهشنى ويزعجنى سلوك النخبة المصرية السياسي. ولى أسباب عديدة توجب عليّ التعبير عن هذا الشعور. فالبلاد على بعد شهور من انتخابات برلمانية تحدد مستقبل مصر والمنطقة لسنوات مقبلة، لكن حتى الآن لم تظهر أحزاب أو جبهات أو تحالفات تطرح نفسها كبديل أو منافس مدنى حديث فى البرلمان القادم. وفى هذه الحالة ستتكرر تجربة الإخوان مع اختلاف الممثلين واستمرار الأهداف. ركز الإعلان على ثلاثة نداءات أساسية تضاف إلى القضايا التى سبق أن شملتها وثيقة الإصلاح العربي. وهى نداء الديمقراطية، ونداء التنمية، ونداء العدالة. وقد كانت هناك حاجة ضرورية لنداء يربط ويثبّت هذه النداءات، يمكن أن نسميه نداء العقلانية، والتنوير. وقد أثبتت السنوات الماضية أن العقل العربى يحتاج لتغيير وثورة تجعل من هذه النداءات جزءا من ثقافته ووعيه. أرى فى إعلان الإسكندرية للتغيير، النداء الأخير للنخب العربية الحديثة لأن تتوحد لتقوم بدورها الطليعي، وإلا عليها أن تقبل الدخول فى مرحلة الانقراض. فالتاريخ لا يعيد نفسه، فقد شهد ستينيات القرن الماضى صعودا مدهشا للنخب العربية وكادت أن تمسك بالمستقبل بيدها. لكن النخب العربية ارتكبت الخطأ والخطيئة حين أوكلت -آنذاك- للنظم الشمولية التى تحالفت معها مهمة القيام بمهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التى رفعت شعاراتها. واعتقدت أن النظم القمعية التى عجزت عن تحرير شعوبها داخليا، قادرة على تحرير فلسطين وتحقيق الاشتراكية. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على