عاد جوناثان بولارد, محلل البيانات الاستخباراتية البحرية الأمريكى السابق, الذى أدين بالتجسس لمصلحة إسرائيل عام 1987, ليحتل من جديد عناوين الأخبار الأمريكية والإسرائيلية, فمع محاولة مستميتة جديدة من جانب الإدارة لإنجاح محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين التى يرعاها وزير الخارجية الأمريكي, جون كيري, عرض من جديد إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلى الأشهر بولارد فى مقابل إطلاق إسرائيل سراح السجناء الفلسطينيين, الذين ماطلت أخيرا فى الإفراج عنهم رغم تعهداتها. لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يطرح فيها ملف الإفراج عن بولارد على طاولة المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية برعاية أمريكية, فخلال التحضير لاتفاقية سلام واى ريفر1998, ضغط رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو, على الرئيس الأمريكى آنذاك بيل كلينتون للإفراج عن بولارد, وقال وقتها نيتانياهو انه الآن مواطن إسرائيلي, بعد أن منح الجنسية الإسرائيلية. كان بولارد قد صرح لصحفى إسرائيلى وقتها انه يعتبر نفسه, جنديا منسيا على الجبهة فى عمق ارض العدو, وانه محتجز على التلة الصغيرة فى إشارة إلى أمريكا وفق الأدبيات العبرية. كانت مصادر مقربة من المسئولين عن المفاوضات الحالية بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلي, قد صرحت يوم الاثنين الماضي, بناء على تصريحات مقتضبة من جانب كيري, بإمكان إطلاق سراح بولارد بحلول منتصف شهر ابريل الحالي, مقابل أن تنفذ إسرائيل وعدها بإطلاق المجموعة الرابعة من الفلسطينيين, وهم 104 سجناء كانت قد تعهدت بإطلاق سراحهم فى يوليو الماضي. كان المحلل السياسى الأمريكى شين هاريس, احد كبار كتاب مجلة فورن بوليسى والمتخصص فى أمن المعلومات وشئون الاستخبارات, قد عبر فى مقال له أخيرا, عما رصده من تحول كبير فى موقف كيرى وعدد من المسئولين الأمريكيين حول إمكان إطلاق سراح بولارد, ويكتب انه فى عام 1999, كان كيرى من بين 60 عضوا من أعضاء مجلس الشيوخ, وقعوا على رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس الأمريكى بيل كلينتون تحثه على عدم تخفيف الحكم على بولارد الذى كان وقتها يقضى عامه ال 12 من عقوبة السجن مدى الحياة, ويتساءل هاريس عن الذى يمكن أن يكون قد دفع كيرى بعد نحو خمس عشرة سنة, لينشد لحنا مختلفا تماما عن لحنه القديم؟ وقتها جاء فى الخطاب الذى وقع عليه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأشد مناصرة للكيان الإسرائيلي, أى قدر من الرأفة سيعتبر بمثابة إذعان لضغوط خارجية, ودفاعا عن مطالب بولارد الخادعة, وهو مما من شأنه أن يبعث برسالة خاطئة للعاملين داخل المجتمع الاستخباراتى الأمريكي, المكلفين بحماية أسرار أمريكا. اليوم يغير كيرى موقفه بعد أن أصبح وزيرا للخارجية, ولم يعد يرى أزمة مبادئ كبيرة فى التلويح باستخدام ورقة بولارد فى مساوماته لإنقاذ محادثات السلام المتهاوية. بولارد الذى ظل لآخر لحظة مصرا فى سياق دفاعه عن نفسه بأنه أعطى المعلومات الاستخباراتية السرية لإسرائيل, من اجل حمايتها من هجمات مفاجئة من جانب دول عدوة فى الشرق الأوسط, وهو ما رفضه جملة وتفصيلا مسئولو الاستخبارات الذين أكدوا خلال المحاكمات, أن بولارد باع نفس المعلومات على الأقل لأربعة حكومات أخري, مقابل المال الذى اتهم بأنه كان من اجل دفع ثمن إدمانه للكوكايين, مما جعل احد المسئولين السابقين يتهمه بأنه خان وطنه من اجل انفه, ثم أعاد تصوير نفسه كفارس منقذ وصدقه عدد كبير من الإسرائيليين, كما صدق أكاذيبه عدد كبير من الساسة الأمريكيين الأغبياء. الواقع أن بولارد يعتبر فى إسرائيل بطل قومي, وقد طالب كل رئيس وزراء إسرائيلى منذ وقت الحكم عليه وعلى مدار عقود حتى اليوم بإطلاق سراحه, تارة بإعلان أن ذلك لأسباب إنسانية, وتارة أخرى كما يدعى أنصاره لأنه قدم معلومات لأهم حليف للولايات المتحدة, وانه قد اتهم ظلما بخيانة وطنه الأول, وقد ناصرت تلك الادعاءات زوجة بولارد التى تزوجها أثناء وجوده فى السجن والتى تظل من اشد المدافعين عنه. لكن يبقى بولارد من وجهة نظر من كانوا مسئولين عنه أثناء خدمته, اكبر خائن فى التاريخ الأمريكي, ومنهم جورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الذى هدد عام 1999 بالاستقالة إذا تم الإفراج عنه, فقد قام بالفعل بتزويد إسرائيل ودول أخرى بكمية ضخمة من الوثائق السرية الخاصة بوزارة الدفاع بما فى ذلك معلومات شديدة السرية حول التجسس على وكالة الأمن القومى السوفييتي, فضلا عن تفاصيل فنية شديدة الدقة عن أقمار التجسس العسكرية الأمريكية, والاهم ما يعرف فى عرف الاستخبارات الأمريكية ب «الكتاب المقدس» وهو عبارة عن تفاصيل دقيقة حول أجهزة التنصت التى تستخدمها وكالة الأمن القومى لاعتراض اتصالات الحكومات الأجنبية, وقد صرح الأميرال المتقاعد توماس بروكس أخيرا, وهو المدير السابق للمخابرات البحرية وكان مدرب بولارد من قبل, انه باع اكبر قدر من المعلومات السرية الأمريكية فى تاريخها ولم يتفوق عليه فى ذلك سوى ادوارد سنودن, الموظف السابق فى وكالة الأمن القومى الأمريكى الذى قدم هو الآخر ملايين الصفحات التى تحوى وثائق سرية حول نظم التصنت الأمريكية, ومنح حق اللجوء السياسى إلى روسيا. ويرى بروكس أن أكبر من استفاد من المعلومات التى باعها بولارد لم تكن إسرائيل وحدها, بل روسيا التى قدم لها ما لم تكن تتصور الحصول عليه, وكان عدد ممن تابعوا القضية من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية قد أشاروا إلى أن إسرائيل قد قايضت المعلومات التى حصلت عليها من بولارد مع روسيا مقابل السماح ليهود الاتحاد السوفييتى بالهجرة إلى إسرائيل, أو ربما ما هو اخطر من هذا, فوفقا الى بروكس فقد نما فى ذلك الوقت تعاون وثيق ما بين الموساد وجهاز الاستخبارات السوفييتى ال «كى جى بى» لم يعرف بعد أبعاده, ولكن ما يؤكده عدد من خبراء الاستخبارات الأمريكية, ووفقا إلى مقال كتبه الصحفى الشهير سيمور هيرش لمجلة نيويوركر عام 1999, فان بولارد على الأرجح قد باع معلوماته الثمينة الى دول اخرى هى على الارجح جنوب افريقيا والارجنتين وتايوان, وكان على اتصال مع مصادر باكستانية وإيرانية لمحاولة التوسط برعاية إسرائيلية فى صفقات أسلحة, كل ذلك مقابل أكثر من نصف مليون دولار, وهو ما لم ينفه بطل إسرائيل القومى أثناء محاكمته, حيث قال ببساطة: لقد كان ذلك مكافأة على جهد جيد قمت به.